نشر بتاريخ: 26/03/2017 ( آخر تحديث: 27/03/2017 الساعة: 00:18 )
الكاتب: عمر فارس أبو شاويش
على رؤوس البنادق كثير من الحب وفي الوطن رائحة ياسمين ودماء، كانت اللحظات غيرها الآن، اللحظات التي عرفتكَ وأنت تمشي بين الدروب وحيداً ، كأنما بوداعك أصبح للأغنية حزن خاص، أقصد أن وداعك رشّ على قلوبنا بعض الملح لتسيل على وجهها دموع حرّاقة ، حرّاقة حدّ انسلاخ الحروف عن الكلمات، والكلمات عن معانيها .
في منتصف الطريق، كانت ضحكاتك الذي يتردد صداها في حي تل الهوى وأبعد قليلاً حتى الضفة، ترتديك بشكل أنيق، كأنها تعرف أن الليل يخبئ لك أربع رصاصات بلا صوت، أربع رصاصات لم تدّق باب رأسك فحسب وتدخل دون إذن مسبق، دقّت باب رأسي وقلبي، لكنني لم أسأل من بالباب، قالت لي غزة إجابتها حينما سكت كل شيء، قالت لي أن البحر على بعد مائتي متر بل ويزيد، اصطحبك إلى سفر دون بداية أو نهاية، سفر كانت فيه حقائبك تخفي أسرار ذهابك والغياب .
أيا مازن، قلت للأرض، في جوفكِ تستقبل الملائكة شهيد هادئ أضاف للحياة شكل جديد غير الحياة التي نعرفها، حياة لا تقل روعة عن عطرك، عن ملامحك التي سبقت الضوء إلى الدنيا، فتضيء وجه البندقية التي تعرف كم يبلغ ثمن الحراب، ثمن الوطن ..
كم أحببناك الآن أكثر، يهذّب غيابك فينا الوجع، يطبطب على ظهر طفل صغير وأنا أخالك حين كنت تغنّي لي آخر أغنيات الحرب فأردّ عن الطائرة صواريخها، ولمّا رأتنا الطيور نبكي، جلست في ركنٍ منزوٍ من الحارة العتيقة، وراحت تقول للصغار: مازن .. آخر القصائد الضاحكة.
وهكذا، كان لغزة إحساسها المتصل مع الغربة الحقيقية، تلك التي هدّمت أسوار المدينة وهي لم تفيق بعد من صدمتها القاسية، وهي تودعكَ وتحنو من رأسك لتهمس بكل حزن: يا ولدي العزيز مازن عذراً، فبكت كل الاعتذارات برفق، لأننا لم نحميكَ كما ينبغي، ولم نكن معك بما يكفي .
متى حولنا الألم تجربة روحية استطعنا إحساسه وجعله فرصة ليحتل نفوسنا على اغتيالك، ليصرخ من أسر الجسد إلى ما هو أرحب وأبعد مدى، فيكون اغتيالك نقطة فارقة، لم تقف عند آخر السطر وتنتهي كل الحكاية كما علمتنا اللغة، بل حكايتك الوحيدة التي وضعت الظروف فيها نقطة نهاية السطر بداية جديدة ، حتى أدركنا أن الاغتيال جزء من حياتنا، اغتيال الحياة، اغتيال الحب، اغتيال الأمان، واغتيال حتى البحر وتل الهوى والهوى .
ها أنت ترحل، تعرف دربك المحفوف بذاكرة الوطن، وحب القضيّة، وتترجل فارساً تقيم عرسك البهي لتزفك غزة بما يليق بالشهداء، وبما يكفي أن يرسم بدمك على الجدران أغاني العاشقين، والمطاردين، والواقفين على عتبات البندقية ..
ها أنت ترحل، صار الملح في دموعك ضحكة، والرصاص في رأسك فكرة، والروح في جسدك تجلس مع المخيم وتعلّم الحارات كيف تربّي الصغار على نشيد الصباح، وتخبز للشمس دقيقاً من لغتك المعقدة، لتطعم من بعدك المقاومين والنبلاء والفقراء .
شتّان يا صديقي بين حمل القلم وحمل البندقية، لكنها رؤية رومانسية بعض الشيء، لا يفيد الآن الوقوف على قبرك ورثاء الكلمات، الزمن مستعجل ولا وقت للوقت، إن لم تسر معه تأملاتك، وتركك حيث أنت واقفاً تقود زمنك .
هيَ فقط كلمة وداع، لعلها مبكرة بعض الشيء، لكنها جاءت، فثمة بنادق تنشأ الآن وتكبر من دون أن تشمّ رائحة الحبر، وتتحسسّ ملمس الورق وتسمع حفيف الصفحات، هي صفحة واحدة بصفحات كثيرة، كانت حياتك .