نشر بتاريخ: 27/03/2017 ( آخر تحديث: 27/03/2017 الساعة: 16:52 )
الكاتب: تحسين يقين
تستفزنا أعمال الفنانة الفلسطينية المغتربة منال ديب، بما تثيره فينا من تداعيات، كونها تعبر عن عمق شعوري وفكري؛ ذاتي وموضوعي، بما يجعلنا حذرين من شيء ما. هو فن تجريبي، بما تدمجه من خطوط وألوان وصور وحروف وكلمات حبلى بالتأملات الصبورة، والرغبات المكبوتة. ولا تبعد المرأة هنا إلا لتقترب كامرأة وإنسان/ة.
9 لوحات تنبض بمشاعر الحنين والحلم والتمرد وغيرها من المشاعر يجمعها التأمل، هي مجموعة الفنانة الفلسطينية منال ديب المقيمة في الولايات المتحدة، حيث تعرض معرضها الآن في نهاية هذا العام الذي حمل عنوانا لا يبعد عما ابتدأنا به.
تجمع الفنانة في لوحاتها وجوه البشر بالحروف والكلمات كرمز لرحلة سردية وجودية، كأن الفنانة هنا تأخذنا برفق لتأمل رحلة تعبير الإنسان عن حياته؛ وهو تعبير روحي يوحي بما يمكن البوح به، أو بما نستطيع قراءة هذا البوح، لتردنا مرة أخرى لأنفسنا لنقرأ ذاكرتنا أيضا، فنحسب أنه يمكن لها التجسد أمامنا.
هو اتصال ما بين الفنانة والمتلقي/ة، اتصال نفسي ذكي، يفضي لاتصال اجتماعي، فثقافي وتاريخي أيضا، حيث ما إن تلامس عيون الزوار مجموعة منال حتى تبدأ الأسئلة حول التشكيل، شكلا ومضمونا.
تبدأ الأسئلة ولا تنتهي، تلك الوجوه والحروف: ما هذا التعانق بين الوجوه والكلمات المكتوبة!
والوجوه، هل رسمتها الفنانة؟ أم هي صور فوتوجرافية للوجوه؟ أو لعلها كذلك عدلت عليها وأعادت تشكيلها من خلال ما يسمى الفوتو شوب. والحروف المختارة، هل شكلت مقاطع من نصوص، حيث يبدو أنه تم اقتباسها شكلا ونصا.
بدأت الأسئلة وما نتهت عما تم دمجه من تجريد الوجوه والكلام..
وجه نائم في الأحلام والذكريات، لكن بمشاعر التعب، كأنه يوحي بما سوف يأتي بعد الصحو، في الوقت الذي نندفع للتفكير فيما يحلم أو يتذكر..
ووجه يتأمل بشعور صوفيّ، من بين الحروف، يصبح شكل الحروف العربية هنا شكلا لانسيابات سردية، تكون النقاط فيها تشكيلات كما الحروف، فتصبح ال "لا" بخط الرقعة، كأنها ذراعان ممدودان، يطلبان من السماء شيئا، في الوقت الذي تبعث رسالة بعدم الاستسلام، إزاء ما حدث ويحدث لصاحبة الوجه.
في لوحة أخرى، تنقسم إلى قسمين طوليا، يظهر الوجهان، واحد غير ظاهر، يلمح لمحا، في حين يشق الوجه الآخر حجابا ما، في إشارة رمزية لعودة الذاكرة، عودة المحاسبة والمساءلة.
واستخدمت التشكيل نفسه في التقسيم الطولي في لوحة أخرى، يظهر الوجهان، واحد بشعور التذكر بحزن، في حين يجسّد الآخر ذلك مضافا إليه الرغبة بالخروج إلى البشر والبوح، بدلالة حركة الفم فيه.
ولعلّ اللوحة التي نفذتها بالأبيض والأسود والرمادي وقليل من الأزرق والأصفر والزهريّ، تؤكد على مضمون ما سبق، وإن حملت مشاعر الوجه إصرارا على البوح، بلوم وعتاب.
في حين ينسجم مضمون ما ذهبنا إليه من خلال لوحة، فيه غضب ممزوج بعتاب، اختارت الفنانة ألوانا حارة إضافة لثقل اللون الأسود، وهي هنا أقرب للرجاء الإنساني.
الثلاث لوحات الباقية هي سرّ يدفع لإعادة تصفح اللوحات ثانية وثالثة، هي لوحات الكلمات المرسومة والمشكلة، هي النص، هي البحث عن مضمون النص غير القابل للقراءة تماما، كأنما هو تعبير عن أثر الذاكرة، التي تتمثل بسردية الكلمات.
هي رسائل الذات عن نفسها، وعن الجماعة، وعن الإنسانية القلقة. وهي تحمل ما تنزع له النفس، وما تتأمله ذاتيا وموضوعيا؛ فهي تحتمل الهم الفردي لامرأة-إنسانة، بتاريخها الشخصي، وتحتمل الجماعة-الشعب بتاريخه العام، ولا يبعد شعبها عنها وعن ما هو عام، حيث يمكن قراءة الأعمال من منظور الشعب الذي تنتمي إليه، ويمكن قراءت نفسيا واجتماعيا، وذلك هو إبداع منال الساحر؛ حيث تشكل الحالة الضبابية حالة رمزية عميقة.
في المجمل، ثمة رسالة في "الذاكرة المجسدة"، وهي رسالة إنسانية جدا: ثمة وقت يصحو الإنسان، ويبدأ بالتذكر، ويبدأ مع التذكر ظهور المشاعر، من حزن إلى عتاب فلوم وغضب، تدفع الناس إلى تأمل ما كان، حتى لا يتم تكراره مرة أخرى.
هو نوع من التصالحية أو مستوى من مستوياتها، وإن أوحت بضرورة مساءلة مسببي هذه المشاعر؛ بما يتجاوز محاسبة مسببي الآلام في غير مكان وزمان، بطموح فني لمساءلة وجودية.
يعود بنا معرض "الذاكرة المجسدة" إلى مشروع الفنانة ديب، والذي ركزت فيه على الذاكرة الفلسطينية، ذاكرة النكبة واللاجئين، حيث أبدعت مجموعات إبداعية تعتبر اليوم بمثابة دعوة إنسانية لمساءلة مسببي الآلام للمضهدين واللاجئين، لعلنا نعرض لتلك الإبداعات العظيمة، والتي لا يمكن للمشاهد أن يرى دون أن يجد نفسه ليس مشاركا لرحلة الآلام، بل محاسبا لمن سببها، باتجاه نشر رسالة حق عودة اللاجئين، فكفاهم ما نالوا من آلام وأذى، فلا يمكن الاستمرار بحرمانهم من العودة.
من معارضها معرض"مجازات فنية" في إسبانيا، ومعرض "الجسر"، الداعي للتقارب بين البشر، وللفنانة منال ديب معرض دائم في ولاية فرجينيا.