نشر بتاريخ: 16/04/2017 ( آخر تحديث: 16/04/2017 الساعة: 17:00 )
الكاتب: رأفت حمدونة
أُعِدّت إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية كمؤسسةٍ تنفيذية مختصة بالسجون، بمعية خبراء في الهندسة البشرية والطواقم ذات النظم والهياكل المعقدة والمتخصصة والمدربة، بهدف تحطيم الروح النضالية والوطنية والمعنوية للأسرى والأسيرات الفلسطينيات في السجون بعد الاعتقال.
وسعت بكلّ الوسائل الممكنة وغير المشروعة قانونياً وإنسانياً إلى جعل السجون مقابر لهم، من خلال مجموعةٍ من السياسات، كممارسة التعذيب النفسي والجسدي، والعزل الانفـرادي، واستخدام الأساليب الردعية والمعاملة غير الإنسانية وغير الأخلاقية، والحصار الثقـافي، والتهديد بالعودة لبدايات الاعتقال الأولى، والتشويش الفكري، والاقتحامات الليلية والتفتيشات العارية، ومصادرة الممتلكات، والقتل المباشر، ومنع الزيارات، وتصاعد الاعتقالات الإدارية، ومنع التعليم الجامعي والثانوية العامة وإدخال الكتب، وسوء الطعام كمًا ونوعًا، وسياسة الاستهتار الطبي وغير ذلك من انتهاكات.
لم تستسلم الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة لمخططات إدارة السجون، فكانت الأقدر على قراءة الواق من حيث حاجة الأسرى للمطالب والحقوق، ودراسة أوضاعهم من حيث القوة والضعف، ودراسة جميع البدائل وفق الإمكانيات المتاحة، والأهم اختيار وسيلة النضال الأكثر تأثيرًا وأقل تكلفةً وأكثر ملائمةً في مواجهة السجان، تارةً بالخطوات التكتيكية وأخرى بالاستراتيجية، وبالوسائل السلمية والعنيفة، وبالحوارات والإضرابات والمواجهة وترجيع الوجبات، والحرب النفسية.
وبالكثير من التضحيات انتقلت الحركة الأسيرة من ضعف التجربة إلى الخبرة والقيادة، ومن العجز إلى الإعداد والريادة، ومن الاستهداف إلى الحماية والأمن، ومن غياب الكادر إلى إعداد القادة، وتم الانتقال من مرحلة إلى أفضل، من العفوية وفقدان الاتزان، إلى مرحلة بناء الذات والتجربة والخطأ، إلى مرحلة التكوين التنظيمي ومأسسة البنى التنظيمية، إلى مرحلة البناء وسيادة السلطة التنظيمية، إلى مرحلة النضال الشامل والنضج والمخاض والانتصار والعزة والكرامة وتحقيق معادلة الرعب مع طواقم إدارة مصلحة السجون، ومن ثم الوصول إلى حالةٍ حقيقية من الإبداع على كل المستويات التنظيمية والإدارية والثقافية والمالية والأمنية والخارجية.
وأثناء الاعتقال ومواجهة السجان برزت ثقافتان متناقضتان هما ثقافة السجان التي تمثل حالة الحقد والكراهية وتحطيم القيمة الإنسانية و سياسة التجهيل والأمية والتشاؤم والتيئيس والإحباط وزرع أجواء الحزن والقتامة والقيد التي تمثلت بأهداف إدارة السجون، مقابل ثقافة الإنسان المعتقل الهادف للحرية وحق تقرير المصير.
واستغل الأسرى أوقاتهم بالجلسات الثقافية وبناء الهياكل التنظيمية والتعمق في العلوم والمعارف ودراسة تجارب حركات التحرر العالمية، والتعلم في الجامعات الفلسطينية والعربية والعبرية والدولية، وحصلوا على الشهادات، واهتموا بالثقافة التي كانت من أهم معالم الحياة الاعتقالية، التي صاغتها الحركة الأسيرة منذ نشأتها، وبرزت حاجة الأسرى لبلورة جوٍ ثقافي منذ بدايات تشكل نواة الحركة الأسيرة، من خلال ملء الفراغ الناجم عن اعتقالهم والاستفادة من الوقت، والإبداع في هذا الجانب هو محاولة نقل الوقت من نطاق سيطرة السجان إلى نطاق سيطرة الأسير، وكثيرة هي مظاهر الإبداع في السجون، ولعل أهمها تخريج القادة، المتمتعين بالخيال الواسع، وعدم الاستسلام للمشكلات، والتحلي بالصبر للوصول إلى الحلول بأقل التكلفة وأقل الإمكانيات، قادة يتمتعون بالانضباط الذاتي، و يميلون للاستشارة في اتخاذ القرار، ومتقبلون للنقد الذاتي والبناء عليه للوصول إلى الأفضل، متصفون بالعقل المفتوح، والتحلي بالمرونة والاتصاف بالحساسية المطلوبة نحو المشكلات، والقدرة على توليد الأفكار الجديدة، والحزم والقدرة على السيطرة والتوجيه والإشراف، والتميز بالمثابرة وتحمل المسؤولية، وعدم الاستسلام لإدارة مصلحة السجون الإسرائيلية ومخططاتها القمعية وسياساتها العنصرية، والقدرة على التكيف مع المحيط والتقلبات رغم التنقلات وكثرة المتغيرات، والتطلع بنظرة تفاؤلية للمستقبل، والقراءة الجيدة للماضي، وأخذ العبرة من التجارب السابقة، وقراءة واعية للواقع، واستشراف للمستقبل مع اليقين بالنصر والحرية، وجميعها مواصفات للشخصية المبدعة، ولعل أبرز مظاهر الإبداع للأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية:
- بناء الهياكل التنظيمية والإدارية:
إن من أهم إنجازات الحركة الفلسطينية الأسيرة بلورة الهياكل التنظيمية، التي هيئت كل الظروف والأجواء لانطلاق كافة أشكال الإبداع للحركة الأسيرة، والتي حكمت جميع العلاقات وضبطتها بلوائح وقوانين، وضبطت الأسرى والأسيرات للالتزام بالحياة الجماعية المنظمة، والرقابة على سلوكهم، وأوجدت الضوابط التي تحكم الأسير بإطاره التنظيمي وبتحديد حقوقه وواجباته، والتي تحكم الأسير بالكل الاعتقالي.
وأوجدت الحركة الأسيرة اللوائح والمواثيق التي تحكم عمل المؤسسات الاعتقالية بين الفصائل، وجرمت الأعمال الفردية غير المنظمة وغير المغطاة ولو ضمنياً من الأطر التنظيمية والمؤسسات الاعتقالية، وأكدت على الالتزام بالقرارات الاعتقالية العامة.
- الثقافة والتعليم:
شكل القلم بندقية الأسير بعد الاعتقال، والورقة هي ساحة المعركة الاعتقالية على كل الجبهات، وقام الأسرى والأسيرات بالتضحيات ودفعوا عشرات الشهداء للحصول على القلم والقرطاسية وإدخال الكتب والصحف والمذياع والتلفاز، ودرس الأسرى الكثير من التخصصات في شتى المجالات "في علم الاجتماع وعلم النفس، والعلوم الإنسانية، والعلوم الإدارية، والسياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والدينية"، وتعلموا اللغات وانتسبوا للجامعات وحصلوا على الشهادات ومنها العليا، وبصبرهم وصمودهم وإمكانياتهم البسيطة، استطاعوا أن يحولوا زنازينهم لصفوف دراسية، وحلقات تعليمية، ودورات ثقافية، ومحاضرات جامعية، وفي الوحشة والظلمة كتبت القصائد الشعرية، والروايات الأدبية، والكتب الفكرية، والتجارب الأمنية، والتوجيهات التنظيمية والاطلاع على الثقافات والمعارف والحضارات.
- أدب السجون:
ينطوي أدب السجون ضمن أدب المقاومة، وهو جزءٌ من الأدب العربي المعاصر في فلسطين، والأدب الوطني والقومي، والأدب العربي والعالمي الحديث، لما يحمل من مميزات وخصائص، وحسٍ إنساني وعاطفي، ورقة مشاعر وأحاسيس ومصداقية، وقدرة على التعبير والتأثير، وهو كل ما كتبه الأسرى داخل الاعتقال وليس خارجه، بشرط أن يكون من أجناس الأدب كالرواية والقصة والشعر والنثر والخاطرة والمسرحية والرسالة.
وكان لأدب السجون انعكاسه الكبير والإيجابي على نفسية الأسير والواقع الاعتقالي، كونه يعبر عن ذواتهم وآمالهم وطموحاتهم الشخصية والوطنية، ويخرجهم من ضغوط الاعتقال وأجواء الكبت والقيد إلى عالم الخيال الرحب، وكان لأدب السجون الكثير من التأثير على المجتمع الفلسطيني الذي وجد فيه الصدق في المشاعر، والبعد عن الذات والمصلحة الشخصية إلى الشيء العام والمصلحة الوطنية، وأوصل للقارىء الكثير من الرمزية والتجارب الاعتقالية وتحذير المقاومين في الكثير من النواحي الأمنية والخروقات التنظيمية وتصويبها ووسائل وأساليب التحقيق والتنبيه للغامض فيها، والانتماء والتواصل في النضال حتى تحقيق الحرية.
- النطف المهربة:
سفراء الحرية، أطفال النطف المهربة، الإنجاب من داخل السجون، جميعها مسمياتٌ تدل على أحدث معركة إنسانية مستجدة لصناعة الحياة، حكاية بدأت بفكرة، وانتهت بحقيقة رغم كل قيود الاحتلال، معركة اعتمدت على حرب الأدمغة بين الأسرى والسجان، قوامها التطلع للحياة بعينٍ متفائلة، وأبطالها أناس مظلومين عزَّل امتلكوا سلاح الإرادة والصمود والأمل بالمستقبل، يفكرون ويخططون ويبتكرون ويبدعون، في وجه إدارة ظلامية تألقت في صناعة الموت، ورغم كل الممارسات والقيود والوسائل الأمنية أخفقت في كسر إرادة الأسرى وحرمانهم من حقوقهم الأساسية بالإنجاب وتحقيق غريزة الأبوة مثل باقي البشر.
ظاهرة تهريب النطف برزت في أوساط الأسرى الفلسطينيين المتزوجين، ومن أمضوا فترات طويلة، ومن ذوي الأحكام العالية، ممن حرموا تكوين أسر وإنجاب ذرية بسبب قيام الاحتلال باختطافهم واعتقالهم من بين أهلهم وذويهم وزوجاتهم، ولأنه الحق الفلسطيني والتحدي لهذا السجان قرر عدد من الأسرى القيام بتهريب نطفهم خارج السجن عبر طرق وأساليب لا تخطر على بال بشر، من أجل الحصول على ذرية، وتكوين أسر وبناء حياة عائلية رغم الغياب القصري عن المجتمع، وبهذه الوسيلة تحطمت شوكة الأحكام المؤبدة نحو قطار الحياة بالأمل والإرادة في معركة البقاء والوجود.
- وثيقة الأسرى:
تنبأ الأسرى بالانقسام الفلسطيني وتداعياته قبل حدوثه، وقدموا وثيقة الأسرى في مايو/ أيار 2006م، من أجل إنجاح حوار شامل على قاعدة البرنامج الوطني المشترك، وعكف على صياغتها قادةٌ لديهم التاريخ والتجربة النضالية، والقدرة على تفهم الواقع الفلسطيني وتركيبته الاجتماعية والسياسية، وقد حصلت الوثيقة على الإجماع الوطني والإسلامي، ولا زالت تحافظ على بريقها، كونها تشكل إرادة الأسرى في السجون وخارجها، بما يحملون من قيم وأخلاق وعطاءات وتضحيات وقراءة لخطورة الموقف، وأمل وطموح عالٍ في الوحدة كأسسٍ لاستكمال المشروع الوطني في إطار معركة التحرير والسيادة والحرية والاستقلال.
- الديمقرطية:
قد يكون من الغرابة الحديث عن تجربة ديمقراطية للأسرى بين جدران سجون مغلقة، وممارسات قمعية قهرية غير معقولة من قبل سلطات الاحتلال، ولكن المسيرة الديمقراطية تطورت في السجون مع تطور الأوضاع الداخلية للأسرى مرحلةً بعد أخرى.
فأسس الأسرى في السجون مجتمعًا قائمًا على تدوال السلطة، وإجراء الانتخابات لاختيار القيادة التي تدير شؤون مجتمع الأسرى في المعتقلات، واحترام الحقوق الأساسية كمبدأ المساواة والحقوق كحق التعبير عن الرأي، وحق الفرد في حماية المجتمع له من الاعتداء على شخصه أو كرامته الإنسانية، ووجود القوانين التي تحكم الحياة اليومية، وتنظم علاقة الفرد بالفرد، والفرد بالمجتمع، وفصل السلطات، ووجود عقد اجتماعي يتم التنازل من خلاله عن جزء من الحرية النسبية التي يتمتع بها الأسرى، وتفويض جهة منتخبة لهذه السلطات لكي تصرف شؤونهم باسم المجموع.
ولقد برزت الديمقراطية في السجون في ثلاثة مركبات، الأولى: على المستوى الفردي بالثقافة والسلوك والممارسة، والثانية: على صعيد بنية التنظيم الواحد وهياكله ولجانه وشكل القرارات فيه، والثالثة: تجلت بشكلٍ واسع على صعيد العلاقة التي تحكم الفصائل والمؤسسات الاعتقالية العامة في كل سجن، وبين السجون لحظة اتخاذ القرارات الجماعية الاستراتيجية العامة.
- الاضرابات المفتوحة عن الطعام:
اعتمد الأسرى الفلسطينيون طريقة النضال السلمي الاستراتيجى المتمثل بالإضراب المفتوح عن الطعام " الفردي والجماعي " كأحد وسائل النضال المؤثر، هذه الوسيلة التي تعد امتداداً لأحد أشكال النضال العالمي، ولقد أثبتت هذه الوسيلة نجاعتها وقدرتها على التأثير وتحصيل الحقوق.
والإضراب المفتوح عن الطعام ليس هدفاً بحد ذاته، بل هو الخيار الأخير، غير المفضل لدى الأسرى، وتلجأ إليه الحركة الأسيرة بعد استنفاذ كافة الخطوات النضالية التكتيكية، وهناك أهداف ومسميات للإضرابات المفتوحة عن الطعام منها: " الإضرابات الاحتجاجية، والتضامنية، والمطلبية، والسياسية، ومنها الجماعية والفردية، ومنها على الماء والملح فقط، وأخرى مع تناول المدعمات من المحاليل والفيتامينات"، فالإضرابات تشكل أوسع حالة ضغط على الاحتلال نتيجة تحرك الجماهير الفلسطينية والعربية والدولية، وتدخل المؤسسات الحقوقية والدولية.
في النهاية أعتقد أن كل مخططات إدارة مصلحة السجون فشلت في تحويل الأسرى والأسيرات إلى عبءٍ يثقل كاهل المجتمع بعد تحررهم، ونتيجة إبداعاتهم خرجوا قادةً سياسيين وعسكريين فهموا حقيقة عدوهم بأكثر وعي وحكمة ودراية وعمق، وشاركوا في مجتمعاتهم كخبراء ومختصين، وكتاب وأدباء وصحفيين، وانخرطوا في المؤسسات الرسمية والأهلية والفصائل الوطنية، قادة ومفكرين، وأمناء لتنظيماتهم وأعضاء مجلس وطني ووزراء فى حكومات فلسطينية متعاقبة.