نشر بتاريخ: 17/04/2017 ( آخر تحديث: 17/04/2017 الساعة: 10:59 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
كلما رحل شاعر أو مبدع أو مفكر كبير، يهتز الوجدان ونشعر بأسى الفقدان، فيسارع كتاب ومحللون لتوصيف المصاب "بأنه رحيل لآخر العظماء الكبار"، هكذا استخدم هذا التوصيف عقب رحيل محمود درويش وأيضاً سميح القاسم، واستخدم كذلك عندما رحل ادوارد سعيد نعم خسارتنا كبيرة وجسيمة بفقداننا لأي مبدع، لكن الشاعر الكبير كما في حال درويش والقاسم ومعين بسيسو ودحبور، لا يغيب مجرد غياب الجسد، لأن المبدع الحقيقي يظل خالداً في القصيدة أو اللوحة أو في أي مجال من مجالات الإبداع في حال جسد التفوق والنبوغ.
أشعار الكبار تتوارث من جيل إلى آخر، ونصوص المبدعين تعيش طويلاً بعد رحيلهم، فكنفاني استشهد وهو لم يتجاوز السنة السادسة والثلاثين، إلا أن "عائد إلى حيفا" و"رجال في الشمس" و"أرض البرتقال الحزين" و"أم سعد"، يعرفها ويفهمها ويردد عباراتها، حتى طلبة المدارس في المرحلة الابتدائية، بمعنى أن رحيل دحبور هو حدث محزن ومفجع إذا تحدثنا عن غياب الجسد، أو عدم القدرة على انتاج أعمال جديدة، بيد أنه خالد في القصيدة وفي مجمل أعماله التحليلية والنقدية ومتابعاته الثقافية التي كان يتناول فيها الإصدارات الجديدة.
لم تتوقف حركة الإبداع في التجربة الفلسطينية، حتى لو غابت عن المشهد طاقات ورموز شديدة الأهمية، فتجربة انتجت محمود درويش لا بد وأن تنتج عديد المشاريع الإبداعية، فنحن شعب حضاري وعريق ويتفاعل بوعي مع خصوصيته، لكنه مفتوح على التجارب والحضارات العالمية، يتأثر منها ويؤثر بها، وإلا ما تفسير تلك المراتب المتقدمة التي يحصل عليها بجدارة مبدعونا على المستويين العربي والدولي في الشعر والرواية والقصة والمسرح والغناء والفن التشكيلي والبحث العلمي؟ إن ما يحققه مبدعونا يؤكد أن الفلسطينيين قادرون دوماً على الاتيان بالجديد واللافت والقابل للحياة والاستمرار.
إننا نفتخر بكل مبدعينا الذين رحلوا وغابوا، ونفتخر بمبدعينا الذين هم على قيد الحياة، بل وعلينا النظر أبعد من ذلك، لنفتخر بمبدعين فلسطينيين لم يولودوا بعد، لأننا نمتلك القدرة على استشراف المستقبل، كوننا نؤمن بالغد، ونرى أن القادم هو الأجمل، هكذا يجب أن نفهم حركة التطور، وسيرورة وصيرورة الحياة.
أن نعتز بما قدمه الفلسطينيون للإنسانية في شتى أنواع الإبداع يندرج في إطار تقدير الذات وتأكيد الوجود، أما أن نتخندق فيما أنتج على اعتبار أن العظماء رحلوا ولا يمكن للأجيال القادمة أن تبدع بمستوى ما أنتج، فذلك يشكل تقديساً للماضي والكفر بالحاضر والمستقبل.
أما كيف يمكن للمعادلة أن تقف على قدميها! الجواب باحترام التراث الثقافي والفكري والإبداعي والتعلم منه، جنباً إلى جنب مع الاجتهاد للبناء على ما أنجز وتطويره، وبالتزامن مع التطلع إلى مستقبل حتماً سيأتي بأفضل مما أنتج في الماضي والحاضر، وإلا كيف يمكن لنا تأكيد تجربتنا، كتجربة حيوية متفاعلة متطورة ولادة!
كان بعض النقاد في سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، يرددون باستمرار، أن تجاوز تجربة المتنبي الشعرية عربياً هو ضرب من ضروب الخيال، ونحن لا نعيب على هؤلاء انشدادهم لتجربة شعرية عظيمة وعبقرية، لكننا نعيب عليهم إغلاق الباب باستنتاجات مطلقة. وفي اعتقادي أن مشروع محمود درويش الشعري قد شكل رداً حاسماً على هؤلاء، حينما تبوأ مكانة مرموقة على مستوى العالم، وأكد أن الإبداع لا يتوقف عند مرحلة زمنية محدودة، وإنما يتواصل مع الأجيال مع استمرار الحياة، فحركة التاريخ تنتج مفكرين جدد ومخترعين في الميادين كافة ومبدعين في الأدب والموسيقى وباقي أنواع وتجليات الفنون وكذلك في البحث العلمي الذي شهد في السنوات الأخيرة إنجازات مبهرة.
الأصل ألا يحدث ذلك القطع بين الحاضر والماضي، أما كيفية النظر إلى الماضي بانجازاته، فهنا تكمن كلمة السر أما المفتاح - تلك الرؤية التي من المفروض أن نرى من خلالها المنجز التراثي في الماضي، وتحديداً بعيون الحاضر أو من موقع المعاصرة، لا أن نتماهى مع القديم بمقاييس واشتراطات الماضي، وإنما بمفتاح الحاضر للعبور إلى المستقبل، أي نفتح أبواب المستقبل بأدوات معاصرة ونحن نستند إلى كل موروث الماضي ومنجز الحاضر.