الجمعة: 29/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

النصوص الأدبية الإبداعية حول الإضرابات عن الطعام ..لم تولد بعد

نشر بتاريخ: 28/04/2017 ( آخر تحديث: 28/04/2017 الساعة: 13:30 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

كباحث في شؤون الأسرى، أصدرت عدداً من الدراسات والبحوث حول التجربة بجوانبها الأدبية والاجتماعية والصحافية والثقافية، لم أعثر على نص أدبي مقنع يرتقي إلى مستوى تجربة الاضرابات عن الطعام، بابعادها الجسدية والنفسية والاجتماعية والنضالية والفلسفية، حيث اطلعت على عديد النصوص، التي تناول كتابها تجارب شخصية في الإضراب، إلا أنها تمحورت جميعها حول الصمود أو تجسيد مواقف أو الحديث عن سلوك خارجي، أو توثيق يوميات على شكل حكايات لم تخرج عن نطاق الإخباري.
وقرأت عشرات البيانات الداخلية التحشيدية أو الرسائل الموجهة إلى الخارج، كما في حال إضراب نفحة في العام 80، إضراب جنيد 84 واضراب جنيد في العام 86، وقرأت أيضاً عدداً من القصص والقصائد الشعرية، لكنها ظلت نصوصاً خارجية لم تتعمق في التفاعلات الداخلية للإنسان المضرب عن الطعام.
لم أجد على سبيل المثال عملاً روائياً متكاملاً عميقاً يضيء مساحات في داخل المضرب عن الطعام، كيف يفكر، وكيف يتعامل مع الوقت، نظرته خلال الاضراب للحياة والموت، أي حيز شغلته الأسرة في اضرابه، الفرق بين الليل والنهار في التجربة، التعامل مع الإعياء والمرض ونقصان الوزن، مستوى التركيز الذهني بين يوم وآخر، الأحلام، الأوجاع، كيفية الصمود أمام الجوع، التفاعلات النفسية لدى المعتقل عندما يجد زميله قد نقل إلى العيادة في حالة خطرة، تأثير حملات التضامن على نفسيته ومعنوياته، نظرته للسجان خلال الإضراب، موقفه من السجان الممرض أو السجان الطبيب، التعويل على المؤسسات الدولية، انتظاره للحظة انهاء الإضراب، وقع انهاء الإضراب، الاستقواء على الألم، الجانب الاجتماعي في الإضراب بين المعتقلين المضربين أنفسهم، لحظات ضعف، وقوة، لحظات توقد المشاعر، النكتة التي تخرج من الألم، النهوض، المشي، شرب الماء بالملح، التعامل مع السيجارة، الكتابة في الإضراب صعوبتها من ناحية، ومتعتها حينما يشعر المضرب أنه قادر على الامساك بالقلم، هل تذكر المضرب شهداء ارتقوا خلال الإضرابات عن الطعام؟!، وهل استدعاء الشهداء ذهنياً يشكل عامل قوة أم ضعف؟!، ومعلوم أن خيار الإضراب عن الطعام هو خيار صعب ومعقد وخطر ويتخذ بعد أن تسد في وجه الإنسان المعتقل كل الأبواب، فيضطر للجوء إلى الإضراب لعله يفتح ثغرات في جدار رفض تلبية مطالبه الحياتية.
المضرب عن الطعام هو في المحصلة النهائية إنسان، وإن كان مناضلاً صلباً، فهو يقوي ويضعف، يغضب ويفرح، يهاب الموت أحياناً ولا يهابه أحياناً أخرى، بمعنى أننا نتحدث عن أعمال أدبية تتغلغل في النفس البشرية، تعرض تناقضاتها وتصالحاتها، تتأزم وتنفرج، تستعجل القادم وهي تتلظى على جمر الانتظار. إن معظم النتاجات التي تناولت تجربة المعتقلين كانت تصويراً للسوبرمان، بيد أن المطلوب أدباً يعكس حقيقة الإنسان، بكل تركيبته وتفاعلاته وتناقضاته، وصولاً إلى تجسيد موقفه في تجربة معينة، التي هي خلاصة ما ذكرت.
محمود درويش، عندما استحوذ عليه الحنين لأمه في الغربة، صور لنا حنيناً موجعاً ومراً، لكنه اقنعنا بلذة الحنين، كان يتألم كما عكست القصيدة، نتيجة الابتعاد عن أمه، توجع كثيراً، إلا أنه لم ينكسر، وظل يكتب وينتج ويحلم.
رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف أظهرت نهراً من الحزن يفجر في أعماق إنسان سجين، وحنا مينه كان يكشف كل تناقضات أبطاله وبعضهم تبوأ مكانة الرمزية، ليقنعنا أنه يتحدث عن إنسان، فتأسرنا إنسانية الإنسان في كل حالاتها وتقلباتها، لأنه يحاكي ما في دواخلنا، فنحن بشر يصطرع في أعماقنا الخير والشر، وتستعر التناقضات في دواخلنا يومياً في عديد المواقف والتحديات.
لذلك نحن بحاجة إلى أقلام متمرسة في سبر مكنونات للإنسان، والإضراب عن الطعام يشكل مثالاً، ينتظر موهبة أدبية لفك رموز شيفرته الإنسانية بكل أبعادها وتجسيداتها، حتى يرى القارئ أو المتابع الصفحات الداخلية للإنسان المضرب، وكيف تنفصل هذه الصفحات في مواقف وكيف تتداخل في مواقف أخرى، وكيف تتوحد في صفحة واحدة في اللحظات المصيرية الفاصلة.
باختصار نريد إبداعاً يبقى ويستمر ويعيش، يتغدى من مقدمات ولادة الموقف، ومن الموقف حينما يتشكل، ومن العوامل التي صاغته، ومن تأثيراته الوقتية والمستقبلية على متخذه، ومن تفاعلات الموقف السلبية، ومن تفاعلات الموقف السلبية والإيجابية، ومكوّنات الضعف والقوة التي أحاطت به، حتى يتسنى له وضع ما نتج في مصاف العالمية، لأن لدينا من التجارب والمواقف ما يصلح ليكون بمستوى أممي، فالإنسان القارئ في أي بقعة من العالم هو إنسان، يحس وينفعل وبالتالي ينحاز لإنسانية الإنسان، بما تحمله من تناقضات، هبوطاً وصعوداً، فلا يوجد إنسان بقالب واحد، بمواصفات جامدة، ونحن في انتظار إبداعات تسمو إلى مستوى التجارب، لنسمو معها بذائقتنا وحسنا ومتعتنا عندما نقرأ ونبحر في عوالم إنسانية، لدينا منها الكثير، حيث يجب ألا تظل محشورة في العناوين العامة.