نشر بتاريخ: 08/06/2017 ( آخر تحديث: 08/06/2017 الساعة: 10:38 )
الكاتب: عيسى قراقع
موائد الافطار فارغة من 6500 اسير واسيرة فلسطينيين يقبعون في سجون الاحتلال الاسرائيلي، انهم هناك خارجون من اضراب طويل استمر 41 يوما، صائمون متعبدون صامدون متمترسون بكل ما ملكوا من ذخيرة في قلوبهم وملح دمهم، عائدون من اشتباك وصلوا فيه الى حافة الموت وانتصروا.
موائد الافطار في هذا الشهر الفضيل خالية من أعز الناس وأجملهم، ذهبوا وسكنوا في المؤبدات وبين الجدران وفي جوف الظلمات، وظلوا على اهبة الاياب، وصلوا الى الأبواب المغلقة أكثر من مرة، سقطوا شهداء او مرضى، خلعوا الحديد والسلاسل وتمردوا في الليل والنهار، ودائما يشعرون انهم على وصول، هنا البيت والذاكرة والوطن المفتوح الذراعين والبحرين والعينين يعانق القادمين.
موائد الافطار على كل مائدة خالية ، الأمهات الرائعات الصابرات ينظرن الى البعيد والقريب، يحدقن في صور ابنائهن المعلقة على جدران البيت، كل شيء يغني عن الكلام، هذا الصمت الموجع ، هذا العمر الذي يجري، هذا العذاب، تلك الشجرة في حوش البيت تجدد اخضرها كل عام، في قاع الارض يجري الماء، وفي قاع الحياة من ينهض من الموت ويعلن الزفاف.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك، حاولي ان اكون هو، حاولي ان تكملي الحلم بي، ربما يتسع الامل ويقدح البرق من هذه العتمات، ربما اعطيك شيئا من المفقود، وتعطيني حبك وحنانك لأنك امي وأكثر وهو الباقي والموجود.
على هذا المائدة خذيني ابنا لك، اذهب معك اينما شئت، الى مقر الصليب الاحمر، الى الامم المتحدة، الى آخر نقطة في الكون ، الى الشمس الدافئة، الى السماء العالية، الى بوابات السجون، سجنا سجنا، زنزانة زنزانة، ادق معك على الابواب، احرك مع اصابعك المفاتيح، اجوع معك، اصوم معك، اموت معك، ولكن لن اسمح لهم ان يقهروك مرة اخرى، وان ينزعوا ابنك من عطشك التاريخي ويدفنوه في الغياب.
على هذه المائدة اشاركك كل الاسئلة الصعبة، لا إجابات عندي، لكني اعرف اننا متفقين يا امي، هؤلاء اولادنا، اسرى حرية، لا أحد لا أحد يستطيع ان يخلع ثوب الحرية عن أرواحهم ونفوسهم، لا تخافي، حليبك يتدفق في عروقهم، حليبك الساخن الدافيء يمدهم بالحياة والقوة، لا تخافي، لا نملك الذهب ولا السيوف ولا العباءات، نملك يا امي الكرامة، هي الاغلى.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك ، ها هو ينتصر في اضراب الحرية والكرامة ، كان قريبا قريبا منك، وصلنا اكثر من مرة، هو الحضور الذي ملأ المكان والدنيا، هي القضية التي لا يستطيع احد المساومة عليها او بيعها في سوق السياسة، نجوع نجوع ونشرب كأس العز بالحنظل ، نجوع ونموت ولكن لا نخضع لشروط الجلادين والمحتلين ومن سرقوا منا ذهب الروح.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك، لسنا يا امي من يتاجر بابنائه ويعرضهم في ميادين المساومات، لا احد يبيع عرضه ودمه، لا احد يا امي، صدقيني لا تبكي ولا تجزعي مما تسمعين، قوتنا ان نبقى كما نحن موحدين اشداء على الظالمين، قوتنا ان لا نتجرد مما تبقى فينا من ايمان ويقين، صلي يا امي، صلي فما اجمل آذان شهر رمضان، هادئا عاليا ممتلئا بالدعاء والرجاء.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك، ليس مهما كثيرا ان لا يأت احد لزيارتك في هذا الشهر او في العيد، لا احد يطرق عليك الباب، ليس مهما كثيرا، هم يخشونك يا امي، انت الضحية الواقفة على قدميها الخارجة من المها ودمها، الشاهدة على الجميع.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك، لم نفقد الذاكرة بعد، لم ننس يا امي رطوبة الزنازين وامراض السجون، لم ننس يا امي حفلات الضرب والتعذيب والقمع بالهراوات والغاز، جلودنا لازالت دامية ، جروحنا مفتوحة، وقد كنت هناك، على باب السجن، في خيمة الاعتصام، في الفجر الباكر تبحثين عن طريق سريع، وكنت هناك تصرخين وتصرخين، سمعناك في السجن، وسمعناك على قبر الشهيد، لم ننس يا امي، لا تستقبلي من نسيك او ابعدك عن كلماتك الأولى، عن صوتك الذي توزع في العالمين.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك، وسأخرج للشوارع واقول للناس لا تعذبوها، هي امكم، ومن يترك امه في فراغ الاسئلة لا يستحق ان يعيش، هي ام الجندي الذي حمل دمه ولازال يحارب، وهي ام الفدائي الذي تعانق مع الحرية لأجلكم جميعا.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك، وسامحيني حاولت ان اصد هجمة الاحتلال على الاسرى ووصمهم بالاهاربيين، حاولت ان يصغي العالم جيدا ليقتنع ان احتلال شعب آخر هو اعلى اشكال الارهاب، حاولت ان يفهموا باننا شعب نتعطش للحرية، لا نريد مناطق صناعية ولا تحسينات اقتصادية في ظل استمرار الاحتلال، لا نريد سماسرة ووكلاء لتعميق وتجميل الاحتلال واغراقنا بالرموز والشكليات، انت يا امي الرمز الوحيد.
على هذه المائدة خذيني ابنا لك، سوف ابقى اردد صدى ما عبر عنه الشاعر العربي امل دنقل:
حدقت في الصخر، وفي الينبوع
رأيت وجهي في سمات الجوع
حدقت في غضب الشعوب
رأيتني الصليب والمصلوب
صرخت اطلب الحرية والنور
كينونتي تبدأ من مهد امي
وحبلي السريّ
حبلها المقطوع