نشر بتاريخ: 08/06/2017 ( آخر تحديث: 08/06/2017 الساعة: 15:27 )
الكاتب: د. وليد القططي
في روايةٍ من الزمنِ الغابر، يُحكى أن أميراً يُدعى "صامد بن صمدان" كان يحكمُ مدينةً متراميةَ الأطراف من داخل قصره الكبير الذي يتوّسط قلعةً حصينة. وقد تعرّضت المدينة لغزواتٍ متتالية وحصارٍ مُحكم من الأعداء، تزامن مع قطيعةٍ صارمةٍ وخلافٍ شديد مع شقيقه الأمير حاكم المدينة المجاورة، ترافق مع تجاهل متعمد ونسيان مقصود من إخوانهِ الأمراء حكام المدن البعيدة. وبعد اشتداد حصار الأعداء، واحتداد القطيعة مع شقيقه الأمير، واستمرار التجاهل من إخوانه الأمراء، وصل القحط في مدينته منتهاه، والجدب غايته، والشظف آخره، والحرمان أمده، والفقر أسوأه؛ فأصاب ذلك الرعية نوعٌ من الملل والسأم، وشيءٌ من الضجر والتبرّم، وقليلٌ من الاستياء والانزعاج.
ثم ازداد الأمرُ سوءاً، والكربُ شدةً، والمأزق عمقاً؛ فتحوّل الهمس بالسوء من القولِ إلى الجهرِ به، وتبدّلت الوشوشة بالشكوى إلى الصدع بها، ثم أصبحت الكلمةُ الخافتة بالاعتراض صرخةً مدوية، وصار الصوتُ الباهت بالاحتجاج صيحةً مجلجلة، حتى أصبح العسسُ في المدينة عاجزين عن ملاحقة المتذمرين ومطاردة الناقمين لكثرتهم، وضاق صاحب الشرطة ذرعاً بمن يظهر الشكوى علناً، فألقى به في سجن القلعةِ قمعاً، وعندئذٍ جمع الأمير أعوانه المقربين وخلصائه المنتجبين ليدلوا بدلوهم وليشيروا برأيهم في أفضل الأفانين في كيفية الخروج من ذلك الشر اللعين.
وعندما عُقد الاجتماع المذكور، وتضارب الرأي بالرأي الآخر، وتصادمت الفكرة بالفكرة المقابلة، خرجَ القومُ بموقفٍ جامع اعتبروه هو القرار الرشيد والرأي السديد، فأجمعوا أمرهم بأن يُرسل الأميرُ في المدينة حاشرين ليجمعوا الرعية ممن بلغ سن الرشد منهم رجالاً ونساءً في صعيدٍ واحد أمام شرفة القصر في القلعة الحصينة، وأن يُحشر الناسُ ضحى، وعندما أتى الموعدُ المعلوم ألقى الأمير خطبةً فصيحة، فيها موعظةٌ بليغة في فضائل الصمود ومحاسن الجمود ومكارم الثبوت، وأضاف إلى ذلك أفضلية الاستعداد للحياة الآخرة والتفكير في الحياة بعد الممات؛ ذلك لأن الحياة الدنيا تافهة، وهي فوق ذلك عابرة وغير دائمة، ثم إنها زائلة... فشحذ عزائم الرعية بخطبته النارية، واستخدم مهاراته اللغوية في تقوية الهمم وتعزيز الصمود وإلهاب الحماسة ورفع المعنويات.
ثم انصرف الناسُ بعد الخطبة مستبشرين بالفرج القريب والنصر الأكيد... حتى إذا مر عليهم ردحٌ من الزمن بعد الخطبة التاريخية دون تغيير في أحوالهم الرديئة، أو تبديل في حياتهم الكئيبة، وأدركوا أن الفرج ليس بقريب بل قد يكون أكثر من بعيد، وأحسوا أن النصر ليس بأكيد، بل قد يكون الشك فيه أقرب من اليقين؛ ففترت لذلك عزيمتهم، وضعفت همتهم، وزُعزع صمودهم، وخفت حماستهم، وانخفضت معنوياتهم... فأعاد الأميرُ الكرة عليهم في خطبةٍ أخرى أكثر فصاحة وأعظم بلاغة، وعلى هذا المنوال سار الأمير، كلما عادوا عاد، كلما عاد الرعية إلى الشكوى عاد إلى الخطبة دون أن يبدو في الأُفق القريب بريق أمل بعيد يُعيد النور إلى ليل الرعية المظلم، ويعيد الإشراق إلى لون حياتهم المعتم.
وبعد عقدٍ من الزمان جمع الأميرُ حاشيته من عليّة القوم الخلصاء المنتجبين من الوزراء والأعوان؛ طلباً للرأي والمشورة، فجاء من أقصى المدينة حكيمٌ يسعى، فشق طريقه من بين الجلوس حتى وصل إلى منصة الأمير طالباً الإذن بالكلام فأذن له الأمير، فقال: يا أيها الأمير إني ناصحٌ لك فأعرني سمعك وقلبك إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيق إلاّ بالله، إنَّ حاشيتك قد كذبوك ولم يصدقوك، وخدعوك بدل أن ينصحوك، وأضروك من حيث زعموا أنهم ينفعوك، ولم يطلعوك على أحوال الرعية وحجم البلّية، واستحبوا تمثيل دور الضحية، وأصبح التضليل ديدنهم، والتهرّب من المسئولية عادتهم، والقفز عن الحقيقة دأبهم.
مولاي الأمير مع إشراقة كل يومٍ جديدٍ على وجه الأرض يُشرق معها أملٌ جديد بيومٍ أفضل من الأمس، وبغدٍ أجمل من اليوم، وبحاضر أكثر سعادة من الماضي، وبمستقبل أكثر إِشراقاً من الحاضر؛ ولكن في مدينتك مولاي الأمير الأمر مختلف فمع إشراقةِ كل يومٍ جديد تصحو الرعية على يأسٍ جديد يجعل يومهم أسوأ من أمسهم، وعلى غدٍ أقبح من يومهم، وعلى حاضرٍ أكثر تعاسةً من ماضيهم، وعلى مستقبل أكثر قتامةً من حاضرهم؛ ذلك بأن الأزمات في مدينتك تستوطن، والمآزق تستحكم، والفقر يتمدد، والبؤس يتعمّق، والمآسي تزداد... وفي المقابل الأملُ يتلاشى، والفرحُ يزوى، والبهجةُ تتوارى، والأمانيُ تنقرض، والتفاؤل يتبدد. وفي مدينتك يا مولاي كثُرَ المحزونون والمهمومون والمكروبون والمغتمون والبائسون... فكم من محزونٍ أعيتة الحيل فلم يستطع توفير قوت عياله، وكم من مهمومٍ منعه الفقر من شراء الدواء لزوجه أو طفله، وكم من مكروب أقعده العجز عن تأمين المسكن لأهله، وكم من فتاة مغتمة فاتها قطار الزواج وهي تجلس في بيت أهلها تنتظر فتى أحلامها الذي لم يأتِ بعد، وكم من شاب بائس ذهبت أحلامه أدراج الرياح، وغرقت آماله في بحر البطالة، وتحطمت طموحاته على صخرة الحصار.
وعندئذٍ استوقف الأميرُ الرجل الحكيم واستحضر ما في ذهنه من معاني الصمود، فقال: لقد سمعت كلامك ووعيتِ موعظتك؛ ولكن ماذا أفعل لأنقذ المدينة من كربها واُخلّص الرعية من محنتها، هل ترضى بأن استسلم للأعداء، واترك المدينة للخصوم الألدّاء، ثم أرفع شعار الخنوع وراية الخضوع. أم تريدني أن أذهب إلى شقيقي الأمير حبواً، ثم أسير إليه زحفاً فأقبل كل ما يمليه علىَّ من آراء ويفرض علىَّ من مواقف قد تضر البلاد والعباد. وما ذنبي إن تخلّى عني إخواني الأمراء في المدن البعيدة، ومنهم من تحالف مع الأعداء ليخضع مدينتي المجيدة.
فأجابه الحكيم: لا يا مولاي الأمير ليس هذا هو المطلوب؛ بل ضده هو المرغوب، ولكن لن يدافع عن مدينتك رعيةٌ أضناها الجوع والطوى، وأنهكها الفقر والعوز، وأثقل كاهلها الخوف والفزع، وأوهنها الضيق والضنك وأذلها البؤس والتعس، فكما توّفر للجنود مقومات الحرب والجهاد وتهيئ لهم مقاعد للقتال والنزال فلا بد أن توّفر للرعية مقومات الصبر والصمود وأساسيات البقاء والجمود.
وشيءٌ آخر مولاي الأمير أن تساوي نفسك بالرعية، فلا تميّز نفسك عنهم في شيٍ صغُر أو كبر فتأكل مما يأكل الناس وتلبس مما يلبس الناس، ثم تساوي بين الرعية فلا تحابي أهلك وحاشيتك وأعوانك والمقربين منك، فليكونوا آخر من يشبع وأول من يجوع، وقدّم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة من نفسك وأهلك وحاشيتك ثم أطلب من الناس الصبر والصمود، وكن كعمر بن الخطاب – رضي الله عنه- كان يجمع أهله وخاصته إذا أراد إنفاذ أمر ويقول لهم: " إني قد أمرت الناس بكذا ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وإيم الله لا أوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانته مني"
وأرسل يا مولاي الأمير إلى شقيقك حاكم المدينة المجاورة، فأبحث معه عما يصلح البلاد والعباد، وينفع الناس في معيشتهم وحياتهم، ويفيد في تعزيز بقائهم وصمودهم فوق أرضهم؛ حتى لا تخلو الأرض للغرباء, ويمكن من بعد ذلك إبطال كيد الأعداء. وأرسل يا مولاي الأمير من يصلح بينك وبين شقيقك حاكم المدينة المجاورة، فتحققوا حلم الرعية بتوحيد المدينتين وإنهاء القطيعة بين الشقيقين، ولتصل معه إلى كلمةٍ سواء يُمكن أن تكون بداية لإجلاء الأعداء وتحرير كامل البلاد والعباد، وابحث معه عما يصلحُ الناس وينفعهم ويأخذ بيدهم في معيشتهم وحياتهم، ليتعزز بقاءهم وصمودهم فوق أرضهم، الذي بدونه لا يصمد الجند في ميادين الجهاد ومنازل القتال؛ حتى لا تخلو الأرض للغرباء ويُمكن بعد ذلك إبطال كيد الأعداء. فأن أنت فعلت ذلك فقد فعلت الخير الكثير، وقد أعذرت إلى الله وإلى الناس وإلى نفسك.