الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

حصار غزة.. لن يطفئ أنوار الفوانيس

نشر بتاريخ: 14/06/2017 ( آخر تحديث: 14/06/2017 الساعة: 17:32 )

الكاتب: هبة الوعري

لن يستطيع الحصار المشدد على مدينة غزة للسنة الحادية عشر على التوالي ولا حتى الشموع البديلة عن الكهرباء المفقودة ولا الحروب التي عصرت بالغزيين أن يطفئوا أنوار الفوانيس والزينة المضاءة في سوق الزاوية بميدان فلسطين وسط مدينة غزة، هذا السوق العريق الذي يحكي كل شارع فيه وكل ركن عن عبق وأصل وحضارة المكان والذي يعتبر قمة الأسواق التاريخية، فرغم ألم أهل مدينة غزة في حياة بلا كهرباء ولا رواتب ولا غاز واغلاق كافة المعابر وحصار قاتل وفقر مدقع وبطالة ونزوح مئات الأسر بلا مأوي حتى الآن جراء الحرب الأخيرة التي تصادف ذكراها الثالثة مطلع الشهر المقبل إلا أن أنوار الزينة كانت تملئ أزقة هذا السوق كما تملئ شوارع وحارات مدينة غزة الصامدة، فرغم عمق الوجع إلا أن لرمضان في غزة طعم ومذاق آخر، فمع ثبوت هلاله تُزين الشوارع والبيوت بالفوانيس المضيئة؛ ويطل علينا شهر الخير بلماته العائلية وجلساته وحركة المواطنين فيه حتى منتصف الليل وصلة الرحم والتلاحم المجتمعي.
عند وقت المغرب قبل الإفطار توجهت إلى سوق الزاوية والذي كان يعج بالناس والحركة وكانت أضواء الفوانيس تلمع في كل مكان رغم ضعف حركة الشراء في هذا الشهر الفضيل وذلك بعد اقتطاع جزء من رواتب الموظفين ومنع الغزيين من التمتع بالحياة الطبيعية إلا أن الفرحة كانت تعم المكان والفوانيس كانت تتصدر البسطات الصغيرة حتى تجذب الأطفال الذين تجمعوا حولها.
الحاجة أم صابر قابلتها هناك فتجاعيد وجهها المرسومة بالوجع تحكي شدة المعاناة التي تعيشها ففي عينيها غيم كثير لا يمطر فقد اختصرت نظراتها كل قصتها، فزوجها استشهد في الحرب الأخيرة على قطاع غزة وهي التي تعيل أسرتها المكونة من 12 فرد، لكنها اسم على مسمى فهي صابرة صامدة مهما تلوكها السنين ألماً ووجعاً فهي تأتي كل يوم منذ الصباح من بيت لاهيا شمال قطاع غزة إلى سوق الزاوية وسط المدينة كي تبيع ما في جعبتها من بضاعة حتى آذان المغرب، تفرش بساط صغير على الرصيف وتجلس عليه كي تبيع التوت الأرضي والنعناع والجرجير، بينما كنت أتحدث إليها جاءها رجل ستيني اشترى منها ضمة جرجير وعندما أرادت أن تُرجع له الباقي بحثت عن فكة في محفظتها القديمة لكنها وجدتها فارغة ثم قالت له بيأس (أنا لم أترزق اليوم!).
سوق الزاوية يوجد به كافة مستلزمات الحياة يكفي رائحة العطور والمسك الطيبة، فكل حانوت من هذا السوق العريق يوجد به العديد من الأغراض البيتية، كما يوجد هناك كافة المكسرات الخاصة بالقطايف وكافة أنواع الأجبان من جبنه صفرة وبيضة والكشكوان والحلاوة، إضافة إلى تمر هندي، قطين، سوس، خروب، قمر الدين، فريكة، حمص، جوز، لوز، جوز الهند؛ وكافة أنواع الخضار والفواكه واللحوم ويكفي رائحة البهارات والتوابل التي شدتني للتمعن بأصنافها العديدة.
القطائف.. اعتاد المسلمون إعدادها وأكلها في شهر رمضان كونها تعد فقط في هذا الشهر المبارك كما أنها متعددة الأشكال والأحجام فمنها قطايف محشوة بالمكسرات ومنها بالفستق الحلبي ومنها بالجبنة النابلسية ومنها بالقشطة، وهناك قطائف العصافير الصغيرة طيبة المذاق.
تنقلت بين الباعة وأنا أسير هناك اخترق سمعي كلمات سريعة كالرصاص كانت موجهه لي من شاب عشريني بحثت عن مصدر الصوت حتى وجدته يقف أمام محله الصغير مكملاً كلامه: (بكفي تصوير بكفي تقارير بكفي صحافيين من أول يوم رمضان وإنتو بتصورونا تعالي اشتروا، محدش حاسس فينا، البضاعة مليانة بس الحال واقف والشراء واقف وغزة محاصرة، محدش مطلعلنا وين الدول العربية, مفش عنا كهرباء بنفطر عالعتمة وقطعوا الرواتب وقطعوا أرزاق الناس, الله أكبر يا عرب)..... لم أتفاجأ بنبرة صوته الحادة ولا بعصبيته ولا بتعابير وجهه الغاضبة ولا حتى بكلامه كوني أعيش في نفس المدينة الجميلة المحاصرة التي تعاني كل يوم وتنزف ولا أحد مجيب، فذلك الشاب كباقي الشباب في قطاع غزة أكمل دراسته الجامعية ولم يجد عمل فذهب إلى هذا السوق حتى يعيل أسرته واستأجر محل صغير حتى يبيع فيه لوازم رمضان ولكن سوء الحال جعل الكثير من المتسوقين هناك يلقون النظرات على البضاعة التي يبيعها هو وغيره دون أن يشتري أحدهم شيء.
فغزة تعيش واقع اقتصادي ومعيشي صعب فمنذ أكثر من عشر سنوات والخريجون يتحدون حصار قاتل وقف أمام أحلامهم، يذكر أن نسبة البطالة في قطاع غزة وصلت إلى 41% وهي الأعلى عالمياً.
لازلت أذكر طفولتي في شهر رمضان شتان بين حياة الأمس وحياة اليوم كل شيء تغير من جيل بسيط وألعابه متواضعة إلى جيل لا يفهم سوى لغة الانترنت والأجهزة الذكية، لا زالت في مخيلتي ألعابي الجميلة أتذكرها تماماً كما أتذكر الفوانيس الورقية متعددة الألوان التي كنت أصنعها بنفسي وأفرح بها كثيراً، كما أذكر المسحراتي الذي كان يأتي إلى حارتنا ليوقظ النائمين للسحور.
شد انتباهي من بعيد طفل صغير يجر عربة صغيرة ويبيع بداخلها شيء لم ألاحظه فاقتربت من عربته وسألته ماذا تبيع قال أبيع السمبوسك التي يطلبها المتسوقين فقط في شهر رمضان، هذا وكانت عربته بها عدة أحجام منها، حينها سألته سؤال ألح عليّ بشدة (هل أنت سعيد يا شاطر بقدوم شهر رمضان؟) أجاب: (لا، لأن أخويا الكبير معتقل في سجون الاحتلال الاسرائيلي وأنا زعلان كتير عشان لما يأذن المغرب بتذكره, كمان إمي بتضل تبكي طول الوقت ونفسها يرجع عشان ياكل من أكلها اللي بتطبخه في رمضان).
وهنا لا ننسى المهمشين من أبناء شعبنا فهناك من يفطر فوق ركام منزله المهدم وهناك أسرى فلسطينيين يفطرون داخل سجون الاحتلال الاسرائيلي وهناك من يفطر وحيداً بعد استشهاد كل أفراد أسرته في حروب غزة، أيضاً هناك من يفطر داخل كرافانات غير صالحة للاستخدام الآدمي إضافة إلى شدة الحرارة بداخلها، كما أن جميع الغزيين يفطرون على العتمة بسبب انقطاع التيار الكهرباء طوال اليوم فالشموع وحدها تحضر بقوة عند اقتراب موعد رفع آذان المغرب.
هذا وشاهدت الانتشار الكبير لبسطات النباتات الخضراء في سوق الزاوية مثل الجرجير والبقدونس والنعناع والجرادة والبصل الأخضر فجميعها نباتات مفيدة للصائم ولها طعم طيب مع الطعام.
اشتريت فانوس خشبي كبير مزخرف بأشكال هندسية جميلة مكتوب عليه رمضان كريم حتى أُفرح أطفالي؛ لم أنتبه للساعة سرقني الوقت حتى موعد الفطرة ثم رُفع آذان المغرب في جامع قريب من هذا السوق وحين قال المؤذن الله أكبر.. الله أكبر حملت أمتعتي ورحلت وبقي ذهني شارد بكل ما رأيته هناك من طقوس رمضانية بحتة ووضع اقتصادي سيء وفرحة ناقصة.