نشر بتاريخ: 23/06/2017 ( آخر تحديث: 23/06/2017 الساعة: 18:53 )
الكاتب: عبد الناصر فروانة
لقد آثرت أن يبرز عنوان مقالتي هذه جريمة في القدس قلّ مثيلها، ومعاناة لا شبيه لها، لعلنا نفيق من سباتنا، وننتفض لنصرة أهلنا في القدس المحتلة، أولئك الذين جعل الاحتلال الإسرائيلي من بيوتهم سجونا لأبنائهم، وحول أفراد الأسرة إلى سجانين على مَن تفرض عليهم المحاكم الإسرائيلية أحكاما بالإقامة الجبرية أو ما بات يُعرف بـ "الحبس المنزلي".
في القدس: تُدنس المساجد والكنائس والمقابر، ويُعتدى على المصلين والمصليات، والمرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى، ومستوطنون يدهسون السيدات ويحرقون الأطفال، وتُقتحم البيوت الآمنة في الليل الساكن، والمؤسسات العامة ومقار المنظمات الدولية في وضح النهار، ويُعتقل منها الفتية والفتيات، الرجال والنساء، الشيوخ والنواب والوزراء وغيرهم.
في القدس: تَهاب إسرائيل الأطفال وتخشى مستقبلهم، فترى فيهم مشاريع مقاومة و"قنابل موقوتة" مؤجلة التحقق لحين البلوغ، فتُختطفهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم، وتَسلب طفولتهم البريئة، وتَزج بهم في سجون مظلمة وزنازين معتمة، ويُمارس السجان الإسرائيلي بحقهم أشد العذاب والحرمان، وتُصدر المحاكم بحقهم أحكاماً مختلفة بالسجن والغرامة، أو بالغرامة والحبس المنزلي، أو كلاهما معا ويضاف إليهما الإبعاد عن مكان سكناهم.
في القدس: فهمنا أن للاحتلال- منذ أن احتلها- سجون عديدة يَزِجُ بداخلها الفلسطينيون من سكان القدس، وأدركنا أن للاحتلال أيضاً سجانين يعملون فيها، وحراساً مدججين بالسلاح يحيطون بها من كل صوب وناحية، لإرهابهم وبث الرعب في نفوسهم بحجة منع هروب أحدهم.
في القدس: اليوم تغيرت الأحوال وتبدلت الأشياء، واختلفت الإجراءات الإسرائيلية لجهة القمع والتنكيل والتضييق، وارتفعت وتيرة الاعتقالات واشتدت السجون قسوة، وتضاعفت معاناة الأهل بشكل غير مسبوق، ولم تعد تلك السجون التي كنا نعلمها تشكل عبئاً اقتصاديا على منشئيها وأصحابها، إذ باتت تكلفة نفقات الإقامة والحياة في السجون الإسرائيلية على نفقة الفلسطينيين. ومع ذلك لم تكتف إسرائيل بما آلت إليه الأوضاع، فلجأت إلى افتتاح مئات السجون الجديدة التي لم نكن نتوقع نشوئها أو افتتاحها لتشكل ظاهرة خطيرة عنوانها "الحبس المنزلي". إذ لم تعد البيوت الآمنة ملكاً لساكنيها من المقدسيين، حيث فرض عليهم أن يجعلوا منها سجونا، ولمن ؟ لأبنائهم وبناتهم ولا أحد سواهم.
في القدس: جعلت إسرائيل مئات البيوت الفلسطينية سجونا، وحولّت الأهالي الى سجانين على من تصدر المحاكم الإسرائيلية بحقه من أفراد الأسرة حكما بالحبس المنزلي. وخلال ثلاثة أعوام فقط حولت إسرائيل أكثر من ثلاثمئة وخمسين بيتا من بيوت الفلسطينيين هناك إلى سجون. وتحول أضعاف هذا الرقم مرات عدة من الأهالي وأفراد العائلات قسراً إلى سجانين على أبنائهم وأحبتهم، وحراس ومراقبين عليهم.
في القدس: المعاناة مركبة ومضاعفة، تتفاقم مع مرور الأيام وتشتد مع تعدد الإجراءات وقسوتها، فبعدما كان الأهالي يطالبون بحرية أبنائهم من سجون الاحتلال الإسرائيلي، اليوم يُجبرون قسرا على حبس أبنائهم وخاصة الأطفال منهم في بيوتهم، يقيدون حركتهم، ويتابعون أنشطتهم، ويراقبون تحركاتهم، ويمنعونهم من تخطي حدود البيت وتجاوز البوابة الخارجية للمنزل تنفيذا لشروط الإفراج التي فرضتها عليهم المحاكم الإسرائيلية، وتجنباً لاعتقال الكفيل أو المتعهد والزج به في ظلمة السجون المعلومة بتهمة خرق "الاتفاق" وبنود الحكم وما وقّع عليه من التزام.
في القدس: "الحبس المنزلي" يُعتبر إجراءً تعسفياً ولا أخلاقياً ومخالفةً لقواعد وأحكام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. كما ويشكل عقوبة جماعية للأسرة بمجموع أفرادها التي تضطر لأن تَبقى في حالة استنفار دائم، حريصة على حماية ابنهم من خطر تبعات تجاوزه للشروط المفروضة.
في القدس: "الحبس المنزلي" إجراء يُراد منه التأثير على توجهات العائلة ومعتقداتهم وأفكارهم ودفعهم نحو الالتزام بما يصدر عن سلطات الاحتلال الإسرائيلي من قرارات، ومنع أبنائهم من تخطي تلك القرارات بشكل مباشر أو غير مباشر، أو تجاوز الإجراءات الإسرائيلية المشددة المفروضة على أهلنا القاطنين هناك في القدس المحتلة. وصولا إلى الهدف غير المعلن والمتمثل بقبولهم بالأمر الواقع ومنعهم طواعية من المشاركة بأي شكل من أشكال المقاومة المشروعة للاحتلال. هكذا تريد اسرائيل.
في القدس: أرى صور طبعت في الوجدان لسبعة عشر أسيرا من أبنائها سقطوا داخل سجون الاحتلال نتيجة التعذيب والاهمال الطبي ليلتحقوا بقافلة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة، فاستحضر سيرتهم النضالية، وأستذكر اسمائهم المنقوشة في القلوب. فيحضرني قاسم أبو عكر واسحق مراغة وعمر القاسم ومصطفى العكاوي وحسين عبيدات ومحمد أبو هدوان وجمعة موسى ورائد أبو حماد وغيرهم.
في القدس: تلك المدينة العتيقة والعريقة ومهد الديانات السماوية، تنتهك فيها كل القيم والمبادئ والقوانين على مرأى ومسمع العالم أجمع، وتُدنس المقدسات وكل ما فيها مستهدف..
في القدس لا معنى للحديث عن عاصمة للدولة الفلسطينية دون دعمها ونصرتها وتعزيز صمود أهلها ورفع الظلم عن أطفالها.
في القدس: حياتنا، تاريخنا، حضارتنا، ذاكرتنا، ارثنا، حقنا. وفي القدس تتجدد آمالنا وتنبع أحلامنا ويشرق مستقبلنا. وتبقى هي وجهتنا وقبلتنا وقرة أعيننا. فلا معنى لأي شيء بدون القدس.