نشر بتاريخ: 29/06/2017 ( آخر تحديث: 29/06/2017 الساعة: 13:43 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
كثيرون مثلي وجدوا في أيام الجمع في شهر رمضان المبارك، مناسبة للتواصل مع القدس روحانيا ووجدانيا واجتماعيا ونفسيا، في ظل تعذر ذلك باقي أيام السنة. فإن تنفتح لك بوابة تمكنك من زيارة المدينة المقدسة، يعني ان تنفتح بوابات قلبك، لتصلك برحاب العراقة، فتسافر بعيدا في التاريخ، تتنشقه ويتنشقك، تحتضنه ويحتضنك، تتحدث اليه ويسرد بدوره قصصه واحداثه على مسامعك، فتنتعش ذاكرتك، وتفيض روحك حبا لا ينتهي. تتمشى في الحواري العتيقة على قدميك، على شرايين قلبك التي تنبسط امامك وحولك كما ينبسط "بلاط" شديد القِدّم على أرض الأسواق المشكلّة في عمر القِدّم.
من المدهش، ما أن تلامس قدماك أرض القدس، حتى تجد قلبك وقد قفز من بين ضلوعك، ليتقدمك سيرا، يصير دليلك ومرشدك وموجهك، تنبهر من سحر المكان، وكأنك تراه لأول مرة، وكأنك لم تتنطط مع أترابك في مرحلة الشباب من حارة مقدسية الى حارة، ومن زقاق الى اخر، فيخيل اليك انك خرجت للتو من دفتر التاريخ، وصرت كائناُ إنسانياُ، تخلّق في اللحظة، وراح يستكشف المكان، يتحسسه بأصابع روحه وعقله، لعله يمسك بالزمن، فتموج مشاعرك في المكان والزمان، لتغتسل مياهك في القدس، يطهر موجك موجه، وينساب سلسا رقراقا يشرب من الشوارع ويسقيها في جدلية رواء بين الذات والموضوع، بين خاص المدينة وبين روحك المنسجمة مع روحها، وروح القدس القادرة على تضمين روحك في روحها الحاضرة في الاني والتاريخي.
في القدس، تتجلى العبادة في الصلاة، وفي الجلوس، تتجلى في المشي والكلام والمصافحة، وفي تحفز ذاكرتك، وفي شرود ذهنك. تتأمل وجوه الزائرين المقيمين المنزرعين على الأرصفة، وامام محالهم التجارية، تفاجأ حينما تكتشف ان القسمات هي ذاتها، بصرف النظر عن اللون او العائلة او المستوى الاقتصادي والثقافي، فالقدس لديها قدرة عجيبة، على تشكيل الناس بقسمات وجوه متشابه، وكأنها توزع الهيئة والانفعال بالتساوي.
تحث خطاك، في محاولة لاستثمار كل دقيقة من يومك، تستعجل المسير لتصل الى بيت ابنتك الدكتورة رزان، تشاهد بيتها الجديد لأول مرة، تتأمل زوايا البيت ومحتوياته، ترقب حفيدك "أبسال" وهو بين مصدق ومكذب، أنك تقف الى جانبه في بيت لم يشاهدك تحت سقفه قبل هذه المرة. أما حفيدك الثاني "نيل" فيظل معتصما في حضن امه، بين بكاء وصمت، لا يدرك ما يجول حوله، اذ جاء الى هذه الحياة قبل ثلاثة شهور، يصرف وقته بين وجبة رضاعة وأخرى، يبكي حينما يجوع ويبكي حينما يشبع، فيما أمه منشغلة في جوعه وشبعه. تقترح رزان وزوجها الدكتور حكم، الذهاب الى عيادتهما، لعلاج ما يمكن علاجه من اسنانك، فهذه فرصتك وفرصتهما لوضع حد لألم الاسنان.
تتساءل بينك وبين نفسك وأنت ممدد على كرسي العلاج: - أهذه عيادة ام متحف؟ أما رزان، فقد اجتهدت في تحضير ادواتها، وراحت تمارس عمل الطبيب تحاول التوفيق بين دورها الطبي العلاجي، وبين الابنة التي تحرص على إتمام مهمتها دون التسبب بألم لمريضها – والدها. المبنى الذي اختاره الدكتور حكم مكانا للعيادة، عبارة عن مبنى قديم مكون من بيتين متصلين، تعود ملكيتهما لعائلة القطب
يقول لك الدكتور حكم شارحا، إن تاريخ هذا المبنى يعود الى العام 1900، أي قبل مئة وسبعة عشر عاما، في السنوات الأخيرة من حكم العثمانيين. تنظر الى السقف، تتأمل قبته، ثم تجول بنظرك في الجدران السميكة، الشبابيك المصممة على طريقة الاقواس الدائرية من الأعلى، ثم تتوقف عند الخزانات القوسية الحائطية، وتترحم على روح المصمم الذي ابدع مزيدا من الفتحات الهندسية البديعة، لتتسع لأدوات الانارة ومن شموع ولمبات كاز.
يخبرك الدكتور حكم انه استعان بمهندس مختص لترميم البناية وإضافة لمسات عمرانية عليها، مع مراعاة الحفاظ على الأصالة والعراقة و تصميم بلاط مشابه تماماً من حيث اللون و الحجم و الزخرفات للبلاط الذي أتلفه الزمن في أجزاءٍ من المبنى، ليكتمل مشهد أرض العيادة بالبلاط القديم مضافاً إليه ما تم صنعه من بلاط جديد بالأحجام و التصاميم ذاتها، تعودون الى البيت في حي وادي الجوز، تجد في الانتظار جلسة مميزة بمشاركة دكتور هاني عابدين و عائلته، نسيب ال الرابي كما أنت. تأكلون و تشربون و تتحدثون، يزحف ليل القدس، يغمر المكان، يغطي الجالسين بمخمليته، تدرك ألا مناص من المغادرة، يتقدمك "أيهم" الى السيارة التي جاء بها لكي يعيدك الى رام الله.
حرك مفتاح سيارته، انطلقت بطيئة في تعرجات واد الجوز و طرقاته الضيقة ثم شقت طريقها مسرعة بعد وصولها الى الشارع الرئيس، صارت القدس تختفي شيئاً فشيئاً من خلفنا، ظلت القدس تلوح في المخيلة أمامنا و حولنا، وكأننا لم نغادرها، لم تخرج القدس فينا ولم نخرج منها سوى بجسدينا.
يلومك صديقك الكاتب جهاد صالح، يقول لك في اليوم التالي، وأنت تشرح له أهم محطات الزيارة:- "كيف تذهب الى القدس وحدك". تطمئنه بان الفرصة ما زالت متاحه لزيارة مشتركة ، وفي يوم الجمعة المقبل من رمضان ستكونان في القدس. تعلم جيداً مدى حاجة صديقك لهذه الزيارة، فقد كان أنجز عملاً موسوعيا عن الرواد المقدسيين، وربما يسعى من خلال زيارته، لالتقاط فكرةٍ جديدة ٍتكون مفتاحاً لنتاج بحثي جديدٍ يتعلق بالقدس.
وفي صبيحة يوم الجمعة يأتي جهاد اليك في سيارة أجرة، لتقلكما الى معبر قلنديا، وتندسا في موج البشر الهائج على طريق العبور.
ساعتانٍ مؤلمتانٍ ضاغطتان، الأقدام تدوس الأقدام، الأجساد المتصببة عرقاً تلتصق بأجسادٍ أخرى، تتلاحم معها، بل تتصارع، كل جسد يحاول التحرر سنتمترات من الأجساد الهاجمة، تنظر بين غابة الرؤوس، ترى رأس جهاد يتقدمك بحوالي عشرين متراً، تتنبه لنفسك في معركة الأقدام، بعد أن داست قدم فيل هائج على قدمك كادت تسحقها، تسب، تلعن، تزحف، الى أن يتسنى لك الخروج الى الشارع، متحرراً من المتدافعين لكن، منتوفاً كدجاجة انهالت عليها كل دجاجات الأرض. تلتقي صديقك جهاد، تجده ساهماً مهموماً، تسأله ما خطبك، الا يفرحك خروجك معافى بكامل اعضائك؟ يقول بحزن: "باستثناء عضو واحد". تسأله عن قصده، فيخبرك ان احدهما تمكن في الزحام من الاستيلاء على هاتفه النقال. ويستطرد جهاد في وصف مصيبته " لا يهمني الهاتف، وانما ارقام الأصدقاء والمؤسسات التي سأحتاج الى وقت طويل لتجميعها".
نقف في مكان جانبي ننظر الى الراكضين الى الحافلات المجهزة لنقل الالاف المؤلفة الى القدس، أتصل من هاتفي على رقم هاتف جهاد، اّملاً سماع صوتٍ من الجهةِ الأخرى، ينبئ بعثوره على هاتف صديقي. لم تنجح كل محاولاتي. يسأل جهاد محتجاً "هل يعقل ان القسم الأكبر من الزائرين يتوق الى القدس والصلاة فيها، بينما يستغل بعضهم الزحام لأغراض رخيصة؟!".
تتعمد التوجه الى الحافة بسرعة لتغيير مزاج صديقك، ولينسى جواله المسروق بخاصة حينما نتقدم نحو القدس. تطلب من السائق ان يتوقف عند عمارة "الطحان"، لتجد الدكتور حكم في سيارته بانتظاركما، تصل السيارة الى اخر محطة يمكن الوصول اليها، تترجلون ثلاثتكم، لتبدأ الرحلة في المكان سيراً على الاقدام.
وفي القدس، تغرقون مرة أخرى في بحر الناس، يفرقكم الموج البشري، يقذفكم شمالاً ويميناً، تجتهد في البحث عن جهاد وحكم، ليلتئم شملكم بعد نصف ساعة، تسوون ملابسكم وتمسحون وجوهكم وتواصلون التجوال البطيء الثقيل في ظل الازدحام لكن فرحكم في القدس وبالقدس يمسح اثار المعاناة.
تمضون وقتاً مشحونا ًبالعواطف، تتنقلون في الشوارع والحواري، تكحلون عيونكم بالمعالم التاريخية، تتحدثون، تتناقشون، تضحكون، تتحسرون، تتوقفون هنا وتسرعون الى هناك. تعودون الى التاريخ، تتحركون في الجغرافيا تتبادلون معلومات عن المكان، تسترجعون ما قرأتم وما سمعتم، وتحلمون وأنتم في كامل يقظتكم.
تتوجهون مساء الى وادي الجوز، حيث تنتظر رزان على أحر من الجمر، تمضون ثلاث ساعات في البيت، تتناولون طعام الإفطار، تلتهمون بعد ذلك كمية من كبيرة من المشمش المقدسي، جاءت به والدة حكم، من شجرة المشمش التي تظلل جزءاً من البستان، مشمش مستكاوي ولا أطيب.
ولأن كل بداية لا بد لها من نهاية، يحين موعد العودة الى رام الله، تعود منشرح القلب، لأنك تمكنت هذا العام من زيارة القدس مرتين ولم يكن جهاد اقل سروراً منك، رغم انه لم يتجول بصوته من خلال هاتفه الجوال، حيث اكتفى بالتجوال بالقدس على قدمي روحه.