نشر بتاريخ: 04/07/2017 ( آخر تحديث: 04/07/2017 الساعة: 10:53 )
الكاتب: د. سلامة أبو زعيتر
مرت الحركات النقابية العمالية عبر مراحلها التاريخية؛ بالعديد من الصعوبات والتحديات التي كانت تعصف بها على صعيد بنيتها، ومدى قدرتها على القيام بواجباتها ودورها لخدمة العمال، والنضال لتحصيل حقوقهم، وتحقيق مصالحهم، وصولاً لبيئة عمل لائقة تحفظ كرامتهم وإنسانيتهم، وأصبحت الحركة النقابية العمالية من أهم المؤسسات الاجتماعية ذات البعد المطلبي التي أسسها العمال للدفاع عن مصالحهم وحمايتها.
ويعتبر حرية تأسيس النقابات والانتماء النقابي من الحقوق الأساسية التي نصت عليها القوانين الدولية، وأكدتها التشريعات والقوانين، كنتاج طبيعي لمراحل النضال، والكفاح، والصراع المرير الذي خاضته الحركات العمالية تاريخياً، الى أن بدأ الاعتراف رسمياً في بريطانيا وفرنسا بالنقابات العمالية في أواخر القرن الثامن عشر، ومن ثم توالى الاعتراف بعد ذلك في أوربا وغيرها من بلدان العالم.
ولقد رسخت الأعراف و القوانين الدولية الحق في حرية العمل النقابي، كقيمة إنسانية تحافظ على بقاء الانسان واستمراريته، باعتبار التنظيم النقابي الإطار الموجه، والمنظم للعمل النقابي الذي يهدف إلى تحسين أوضاع العمال المادية والمعنوية وحماية كرامتهم، ويعد أحد الحقوق الأساسية للإنسان، التي تنص على حقه في التجمع والاشتراك مع الآخرين بالدفاع عن المصالح المشتركة، سواء بالتعبير أو النشر أو الضغط والمناصرة، وهذه الحقوق ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948، حيث أكدت المادة الثالثة والعشرين صراحة في فقرتها الثانية أنه : " لكل شخص الحق في أن يُنشئ وينضم إلى نقابات حمايةً لمصلحته"، كما أكد العقد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المؤرخ في 16 ديسمبر 1961، الذي يشمل تعهد الدول الأعضاء بأن تكفل الحق كل فرد في تشكيل النقابات والانضمام إلى ما يختاره منها، ولا يجوز وضع القيود على ممارسة هذا الحق، سوى ما ينص عليه القانون مما يكون ضرورياً في المجتمع الديموقراطي، كما تضمن إعلان التقدم والتنمية الذي أجازته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 ديسمبر 1969 في الفقرة ( أ ) من المادة العشرين : "النص على كل الحريات الديموقراطية للنقابات وحرية التجمع لكل العمال".
لقد مَثَل الاهتمام بالعمل الركيزة الاساسية التي قامت عليها أحد أهم المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وهي منظمة العمل الدولية ILO، والتي تمثل الشراكة الحقيقية لأطراف الانتاج على قاعدة التعاون الدولي، باعتبار العمل رابط يساهم في توحيد الجهد العالمي باعتباره مجرد من كل النزعات العصبية والطائفية والدينية والعرقية؛ يتحد فيه الجميع على الرغم من اختلافاتهم.
وقد أولت المنظمة اهتماماتها بالسعي لحماية الحقوق والحريات النقابية والنهوض بها في مجتمع العمل سواء للعمال أو أصحاب العمل، من خلال ما يصدر عنها من معايير واتفاقيات دولية تهدف لتجسيد العدالة الاجتماعية، وتحسين واقع التنظيم النقابي للقيام بمهامه ودوره لحماية أعضاءه.
حيث أصدرت منظمة العمل الدولية اتفاقيات عمل وتوصيات لحماية التنظيم النقابي، ومن أبرزها كانت اتفاقيتا 87 و98 لحرية التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية، وتعد الاتفاقية رقم 98 الصادرة سنة 1949 مكملة للاتفاقية رقم 87 لسنة ،1948، والتي تعالج بشكل أوسع مسائل تتعلق بالعلاقة بين العامل وصاحب العمل، إذ تحمي العاملين من ممارسات التمييز في التوظيف المغايرة للوائح النقابات؛ وتقضي بشكل خاص أن من حق التنظيمات العمالية التمتع بحماية كافية ضد تدخل أصحاب العمل، كما وتعتبر الاتفاقية رقم 87 لمنظمة العمل الدولية حول حرية التجمع والتنظيم من الاتفاقيات الأساسية التي تكفل هذا الحق للبشر، وأبرز ما تنص عليه اتفاقيتا 87-98 حول حرية التنظيم النقابي التالي:
تمتع العمال بحقهم في إنشاء منظمات نقابية يختارونها وفي الانضمام إليها وبالمثل بالنسبة لأرباب العمل.
ضرورة أن تبذل الأطراف المعنية، بما فيها الحكومة، الجهود لخلق المناخ وتوفير الظروف التي تسمح بتشجيع المفاوضة الجماعية.
تمتع العمال بحماية ضد أعمال التمييز المناهض للنقابات، ومن ذلك الحماية ضد رفض الاستخدام بسبب العضوية النقابية أو المشاركة في الأنشطة النقابية.
حماية منظمات العمال من سيطرة أصحاب الأعمال أو منظماتهم وتدخل الحكومة في الشؤون الداخلية لها.
أما على صعيد المعايير العربية التي تنص على حرية التنظيم النقابي، فقد أصدرت منظمة العمل العربية الاتفاقية العربية رقم 8 لعام 1977 بشأن الحريات والحقوق النقابية وأبرز ما جاء فيها:
لكل من العمال وأصحاب الاعمال، أياً كان القطاع الذي يعملون فيه، أن يُكونوا دون إذن مسبق، فيما بينهم منظمات نقابية أو ينضموا إليها لترعى مصالحهم وتدافع عن حقوقهم.
تمارس منظمات العمال ومنظمات أصحاب الأعمال نشاطها بمجرد إيداع أوراق تكوينها.
يضع كل من العمال وأصحاب الأعمال المؤسسين للمنظمة نظامها الأساسي الذي يتضمن على وجه الخصوص أهدافها، ووسائل تحقيقها، وكذلك أجهزتها وطرق تمويلها وإدارتها دون تدخل أو تأثير من أي جهة كانت.
لكل من منظمات العمال ومنظمات أصحاب الأعمال الحق في أن تشكل فيما بينها وفي مجال عملها نقابات عامة أو اتحادات نوعية أو فرعية، ولها الحق في تكوين اتحاد عام واحد.
أما على الصعيد الفلسطيني وما ينص حول الحريات والحق بالتنظيم في الدستور، يقر القانون الأساسي بالحريات العامة والحق في التنظيم، حيث ورد في المادة (19) أنه لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن مع مراعاة أحكام القانون، وقد ورد في مادة (25) تأكيد على الحق بالعمل لكل مواطن، وهو واجب وشرف وتسعى السلطة الوطنية إلى توفيره لكل قادر عليه، والعمل على تنظم علاقات العمل بما يكفل العدالة للجميع، ويوفر للعمال الأمن والاستقرار الوظيفي والرعاية الصحية والاجتماعية، كما ونص على أن التنظيم النقابي حق ينظم القانون أحكامه، والحق في الإضراب يمارس في حدود القانون؛ كما ان المادة (26) فقرة (2) منها تنص على الحق في تشكيل النقابات والجمعيات والاتحادات والروابط والأندية والمؤسسات الشعبية وفقاً للقانون؛ وتجسد ذلك بقانون العمل الفلسطيني الذي أكد على الحق بالتنظيم النقابي وكفل حريته، فبرغم أنه استثنى من أحكامه في المادة (3) فقرة (1) موظفي الحكومة والهيئات المحلية؛ إلا أنه كفل حقهم في تكوين نقابات خاصة بهم، كما أكد في المادة (5) على حق العمال وأصحاب العمل في تكوين منظمات نقابية على أساس مهني بهدف رعاية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم.
في ظل الاهتمام بحرية التنظيم النقابي دولياً وعربياً ومحلياً، ولكي تتجاوز الحركة النقابية العمالية الفلسطينية الصعوبات والأزمات والتحديات؛ يجب إدارك الأخطار التي تحدق بالعمل النقابي في ظل الظروف المختلفة والمتغيرات السريعة والتي بلورة الواقع النقابي الحالي بكل مكوناته وخصوصيته، فالاعتراف بالأزمة والشعور بحقيقتها أول خطة نحو التدخل والعلاج الفعال، ويمكن أن يأتي ذلك بالسعي الحثيث من الجميع لإعادة تنظيم العمل النقابي على أسس سليمة تكفل حريته واستقلاليته وبما يضمن استمراريته، وذلك بمراعاة المعايير الدولية التي تنص على ذلك والاستفادة من التجارب السابقة التي مرت بها النقابات، وذلك بإرادة متجددة وروح نضالية تستمد طاقاتها من الانتماء والايمان بالقوة الذاتية للنقابات والتي تقوم على أساس الممارسة الديمقراطية والاستقلال بالقرار.
إن الحرية النقابية على المستوى الوطني بحاجة لتجسيد حقيقي على أرض الواقع في ظل تكرار أزمات تكاد تعصف بالعمل النقابي، وبمقدرة النقابات على القيام بدورها وواجباتها كممثل حقيقي للعمال يساهم في العملية التنموية وتطوير علاقات العمل واستقرارها، وهذا يدعو إلى ضرورة الإسراع في إصدار تشريع بقانون عصري ومدني وديمقراطي للنقابات العمالية، يقوم على حرية التنظيم النقابي وفق المعايير الدولية وخاصة اتفاقيتي العمل الدولية 87و98، وبما يحد من أي تدخل في عمل النقابات أو محاولة تقويضها او احتوائها، فإعطاء النقابات العمالية الحرية يساهم في توسيع خياراتها النقابية والنضالية ويفسح المجال لاستعمال الوسائل المتاحة والمشروعة بحرية، بهدف تطوير نشاطاتها النقابية وبما يعزز الثقة مع القواعد العمالية ويساهم في مواجهة التحديات والمعوقات بالعمل.
أخيراً إن التجربة النقابية على المستوى الدولي والعربي تؤكد على أهمية الحفاظ على حرية التنظيم النقابي واستقلاليته، وضرورة منحه الحريات والحقوق التي تكفل له الأرضية السليمة لممارسة العمل النقابي بشكل ديمقراطي وحر، وبدون التدخل في شؤونه وتقييد حريته، بهدف النهوض بالواقع العمالي، بما يساهم بالمشاركة الفعالة في رسم السياسات الوطنية الاجتماعية والاقتصادية وبناء أسس الدولة المدنية الحديثة، في ظل تنامي الجهود الوطنية للبناء والتحرر وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، انسجاماً مع المعايير والقوانين والتشريعات الدولية، ومبادئ حقوق الانسان؛ ولتحقيق ذلك لا بد من إيمان والتزام السلطة الفلسطينية، وكافة مكونات المجتمع المدني الفلسطيني بتلك المبادئ ومنها حق حرية التنظيم النقابي وصولاً لمجتمع ديمقراطي مدني متحضر.
عضو الامانة العامة للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين