نشر بتاريخ: 04/07/2017 ( آخر تحديث: 04/07/2017 الساعة: 13:27 )
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
خرج كمال من السجن لكن السجن لم يخرج منه. وقرر أن يبدأ حياة جديدة مليئة بالصدق والفرح وبعيدة كل البعد عن النفاق والأقنعة، حياة مبنية على الصراحة ومن دون معارك جانبية مع أي احد، حياة بسيطة فيها من التقشف ما يكفيه للشعور أنه حقق انتصارا واحدا على هذه الحياة التي كذبت عليه وأضاعت زهرة شبابه.
كان يختزل حلمه في شقة متواضعة تطل على القدس، مع شريكة تحمل في يدها كوب قهوة ساخن، ويتبادلان أطراف الحديث بحنان لا منتهي وصدق لا يشوبه شك، وعلى طريقة حمزتوف اختزل الوطن في مشهد صديقين يتبادلان الضحك في يوم ماطر ترقص فيه الرياح على النوافذ الزجاجية. كان مستعدا للتخلي عن كل المعارك من اجل معركة واحدة وهي الخروج من السجون التي يحملها في رأسه، فالحياة اصبحت سجون كثيرة وعليك ان تختار السجان الذي يعجبك.
الحياة قد اختلفت تماما بعد عشر سنوات قضاها خلف الجدران. عشر سنوات كاملة أعاد خلالها ترتيب أولوياته وظن فيها أن أهم مشكلة في حياته هي السجن الراهن، ولو أنه يخرج من السجن الأول وتتاح له الفرصة لاتخاذ القرارات من جديد. لو أنه يستطيع البداية مرة أخرى فانه سيحصل على السعادة المطلقة التي تغمره وتعوّضه العذاب المرير الذي لاقاه.
اصطحبه أقرانه إلى الأسواق التي بدت عليها مظاهر الثراء رغم فقر الناس!! فوجد أن الفقراء يشعرون بفرح غريب حين يجدون الأسواق مليئة بالبضائع الثمينة وليس العكس. ولا يوجد تفسير علمي لهذا.
واستغرب كمال على طريقة الشاعر السوري محمد الماغوط الذي احتار في أمر خادمة تبكي وتبلل المخدة بالدموع الساخنة وهي تتابع بشغف حلقات مسلسل يتعثر فيه السيد الغني في قصة حب مع ثرية جميلة.. ولا احد يعرف لماذا تتعلق الخادمة البائسة كل هذا القدر بمشاكل الأغنياء!!
أكثر ما لفت انتباه كمال، الباب الكهربائي على مدخل السوق التجاري. واعتقد كمال، بل أقنع نفسه، أن الباب يفتح له الطريق كلما تقدم منه. أعجبه الأمر كثيرا. وفي الذهاب والإياب كان الباب يفتح الطريق لكمال. توقف كثيرا عند الأمر. عشق المشهد، أمضى وقتا ممتعا في هذا الاعتقاد حتى بلغ إعجابه ما بلغ. وبدأ يسأل نفسه: هل يحترمني هذا الباب؟ هل يحبني؟ هل يكافئني على سنوات السجن والقهر ويظهر لي كل الاحترام الكبير؟ أسعده هذا الشعور وأخفى مشاعره عن أصدقائه حتى لا يسرقوا منه فرحته الغامرة.
وفي كل مرة يذهب فيها إلى السوق التجاري كان الباب يفتح له بطريقة سهلة.
وذات يوم، جلس عند "كافتيريا" الطابق الأول وهو يغمس روحه في الفرح مثل كعكة انجليزية داخل فنجان شاي ساخن، ولكن صدمته كانت كبيرة حين رأى بآم عينه أن الباب يفتح لكل عابر وليس له لوحده!!!!!!!
كان الباب يفتح ذراعيه لأي قادم جديد، لأي قصير أو طويل، لأي كريم أو خسيس، لأي رجل دين ولأي كافر منحط، لأي سعيد ولأي تعيس يتقدم نحوه.
شعر كمال بحزن شديد، وبحماقة أشد، فغادر السوق على وجه السرعة. وعاد وسجن نفسه في غرفته البائسة بعد أن انطفأت روحه مثل فتيلة سراج في ليلة عاصفة.
ليست السجون القاسية تلك التي يحرسها جنود مدججون بالهراوة والبنادق، وإنما السجون في داخل صدرونا. حين نعتقد شيئا ويتضح شيئا أخرا تماما.
السجون الحقيقية ليست الأبواب التي تفتح وتغلق بالإقفال، وإنما تلك الأفكار التي تسيطر علينا. وتحكمنا، وتأخذنا إلى نهر الاعتقاد، ثم ترمينا جثة هامدة في بحر الضياع الأبدي.
الوطن ليس له بوابات، وليس عليه أقفال. وانما نحن الذين نختزل الوطن في حكومات ودول وأحزاب ونصنع الأبواب ونشدد عليها بالأقفال.
والغريب أن كمال، لا يزال يعتقد أن الأبواب لها قلوب!!!!