نشر بتاريخ: 05/07/2017 ( آخر تحديث: 05/07/2017 الساعة: 17:49 )
الكاتب: عوني المشني
يستذكر القادة العظام في ثلاث، انجازاتهم التي بقيت بعد وفاتهم وهي باستمرار وجودها تذكرنا بعظمتهم ، قراراتهم الحاسمة والتي غيرت في وقتها مسار التاريخ وبقيت بعبقريتها عصية عن النسيان ، سماتهم الانسانية المتميزة والتي تعكس روح إنسانية كبيرة متسامية ، فالقائد وان امتلك واحدة من هذه فانه سيكون قد دخل سجل الخلود وهزم الموت ببقاء اثره حيّا ، فكيف اذا امتلك قائد عظيم الصفات الثلاث هذه مجتمعة ؟!!!! هذا هو بالضبط ياسر عرفات ، هو بذاته لا يمتلك تلك الصفات الثلاث فحسب بل هو خير من جسدها ولهذا كان اكبر من رئيس ، اكبر من قائد ، واكبر من زعيم ، هذا هو ياسر عرفات طائر الفينييق والذي هزم الموت بان حفر اسمه في سجل الخلود .
ياسر عرفات يقودنا وهو حي ، فهو القائد والحاكم والزعيم والأب، وياسر عرفات يقودنا وهو ميت ، فبدمه قد رسم حدود الحرام والحلال في السياسة والمفاوضات ، حدود المسموح والممنوع ، حدود الممكن والمستحيل ، حدود الواقع والحلم ، ولا زالت وستبقى خطوط ياسر عرفات شاخصة امام كل سياسي فلسطيني قدر له او سيقدر له التعاطي مع حل ما للصراع الفلسطيني الاسرائيلي ، المناورة المسموحة هي التي تسمح به ثوابت وخطوط ياسر عرفات ، التنازل المسموح هو التنازل الذي كان يمكن لعرفات ان يقدمه ، الموقف المطلوب هو الموقف الذي وقفه ياسر عرفات ، هكذا هو الرجل ، هكذا هو لنا لنا وهكذا نحن له ، قدر فلسطين وفلسطين قدره . لا انفصام بين الاثنين ، ياسر عرفات وفلسطين وجهان لقضية واحدة ، فلسطين حملته وجعلته زعيم عالمي قل نظيره في القرن العشرين ، والرجل حمل فلسطين وجاب فيها القارات والعواصم وفرضها عنوة على اجندة الدول العظمى ، التداخل بين الخاص والعام ، الذاتي والموضوعي ، الوطني والانساني ، التداخل بيت تلك الدوائر في فكر وممارسة ياسر عرفات يصل الى حد التطابق بين تلك الجوانب فالخاص هو ذاته العام لدى ياسر عرفات ، والموضوعي والذاتي لا فروقات بينهما لديه ، وكذلك الحال في الدوائر الاخرى ، انه تماهٍ تام وكامل بين الخاص والعام ، الذاتي والموضوعي ، الوطني والانساني ، لذلك لا تستطيع ان تقول ان هناك خصوصية للرجل ، ياسر عرفات القائد الوطني الانسان هو ذاته لا انفصام في شخصيته ولا تناقض . ياسر عرفات معيار لاصدار الأحكام في الحالة الفلسطينية ، القائد الجيد هو القائد الذي يشبه ياسر عرفات ، القائد السيئ هو القائد الذي يختلف عن او مع ياسر عرفات ، القرار السياسي الصحيح هو القرار الذي كان عرفات سيتخذه لو كان حيّا والقرار الخطأ هو القرار الذي كان عرفات سيرفضه لو كان حيّا . صحيح اننا توصلنا متأخرا لهذه الحقيقة لأننا لم نكن بعمق وادراك ووعي ياسر عرفات ، ما توصلنا له الان كاستنتاج توصل له ياسر عرفات قبل عشرين او ثلاثين عاما ، وهذه المدة هي الفارق بيننا وبين الزعيم في مستوى الوعي والإدراك والعمق ، ياسر عرفات تحدث عن البلقنة في الوطن العربي في نهاية الألفية الثانية ، كنّا نضحك عندما نسمعه ونقول بالهمس " هل الرجل يهذي ، أين البلقنة الذي يتحدث عنها الرجل ؟!!!" وها هي بعد بضع وعشرين عاما تأتي البلقنة بأبشع صورها ، كم كان عرفات سابق بوعيه وإدراكه للزمن ، كم كان سياسيا محترفا . قال اسحق رابين في معرض تقييمه لياسر عرفات في الذكرى الاولى لاتفاقيات أوسلو " عرفات أستاذ في لعبة البقاء " الذي لم يقله رابين ان عرفات مبدع الى حد الخرافة في لعبة خلق فلسطين ووضعها على الخارطة السياسية ، عرفات كإنسان لم يكن ليبقى الى الأبد كان سيموت حتما هكذا سنة الحياة ، لكن عرفات نفخ في الصور فاستوت فلسطين حقيقة سياسية مفروضة على الارض رغم كل محاولات الطمس والتغييب . عرفات رسم خطوط الثوابت وبدمه ، ما رفضه ياسر عرفات في كامل ديفيد لن يستطيع اي سياسي او شبه سياسي فلسطيني ان يقبله وحتى لو باع ذاته وقبل ما رفضه ياسر عازفات فلن يستطيع مطلقا تنفيذه ، تلك هي خطوط ياسر عرفات ، خطوط مرسومة بالدم مسيجة بالنار ومزنرة بالبارود ، خطوط واضحة ، ومقدسة ، يمنع لأي احد ان يتجاوزها حتى لو ادعى ان ذلك يتم باسم ياسر عرفات . ياسر عرفات البرغماتي هو الوجه الاخر لياسر عرفات الثائر ، ينحني امام اي نسمة ولا تقتلعه العواصف ، مستعد لكل شيئ من اجل فلسطين ، ينتظر حتى الملل ، ويسرع حتى حرق المراحل ، يكابر حتى إنكار الحقائق ، يتقبل الامر حتى الاستسلام ، يقاتل حتى الشهادة ، يفاوض حتى العبث ، فما دام من اجل فلسطين ولخدمتها فكل شيئ مباح ، غير المباح وغير المسموح وغير الممكن هو التفريط بفلسطين وشعبها وحقوقها . خطوط ياسر عرفات الحمراء دفع الرجل ثمنها حياته ، صموده في كامب ديفيد جعلهم يغتالونه عسى ان يجدوا من يتنازل عما رفض ياسر عرفات ان يتنازل عنه !!!!! استشهد القائد وحملنا أمانة الالتزام بثوابت وطنية رفض هو ذاته ان ينجوا من الموت مقابل ان يتنازل عنها ، وها هي السنين تمضي والثوابت باقية والخطوط التي رسمها عرفات اكثر وضوحا وأشد قوة . وياسر عرفات ارشيف وطني متكامل ، بمراجعة تاريخ الرجل تحدد مواقف ومواقع الرجال ، صدقهم ، اخلاصهم ، وطنيتهم ، ورجولتهم ، من تآمر على ياسر عرفات تآمر على فلسطين ، من اختلف مع ياسر عرفات اختلف مع الوطن ، من تقاعس عن دعم ياسر عرفات تقاعس عن اداء دوره ، تكتشف الرجال باستعراض تاريخ الرجل ومسيرته . ربما يأتي هذا الوعي لتلك الحقيقة متاخرا ولهذا نحن مدانين لياسر عرفات باعتذار كبير وواضح وبأثر رجعي لثلاثين عاما واكثر . نتذكر الرجل الان لانه " في الليلة الظلماء يفتقد البدر " حيث اشتدت حلكة المرحلة ومرشحة ان تشتد اكثر فاكثر ، خاصة إننا على أبواب مرحلة أشبه بكامب ديفيد وأشد سوءا منها ، ستمارس ضغوطا لا تتحملها الجبال علينا لقبول ما رفضه ياسر عرفات ، هنا وهنا على وجه الخصوص تأتي أهمية استحضار القائد الشهيد ياسر عرفات ، وبما ان الرجل لا يحتاج الى من يذكرنا به ، ففي كل خطوة في مسيرتنا بعده نستلهم من تجربته ما يساعد في فك طلاسم المرحلة ، انه ياسر عرفات ترك لنا ما يساهم كثيرا في ادراك متطلبات المستقبل وتجاوز عقبات الحاضر . استلهام تجربة الرجل الان ، والآن على وجه التحديد مهمة أساسية ، وضرورية ، فالتجربة التي عاشها الرجل هي اختزال لتعاطي الفكر السياسي الفلسطيني مع متطلبات العمل النضالي والسياسي وهي نبراس نتعلم منه . لا خوف على القضية الفلسطينية ، لا احد يستطيع تصفيتها ، شعبنا قادر على ابداع الجديد الجديد الذي يعيد للقضية تألقها ووهجها وعنفوانها ، الخوف على الرجال الذين لن يصمدوا بتحمل مسئولية القضية ، الخوف ان يذهبوا ويخسروا ذاتهم ، اما القضية فباقية ما بقي شعبها .