نشر بتاريخ: 23/07/2017 ( آخر تحديث: 23/07/2017 الساعة: 18:14 )
الكاتب: د.احمد يوسف
في الأسابيع الأخيرة، يدور هناك كثير من الهمس والشكوك في أذهان الفلسطينيين وغيرهم، حول جدوى وفعالية التناغم المتزايد في قطاع غزة بين كل من حركة حماس والتيار الإصلاحي بقيادة النائب محمد دحلان. ويثور تساؤل محير حول إمكانية نجاح هذا الحراك في الوصول الى حالة من الشراكة الوطنية المنشودة في السنوات العشر الأخيرة. فيما ذلك ينشغل أهل غزة في رصد النوايا المشتركة الطيبة للطرفين لتعزيز بناء الثقة، وتطوير الرؤية نحو إدارة أفضل لمعالجة أزمات قطاع غزة المتراكمة، والاجتهاد في تخفيف معاناة الناس، والسعي لتحسين مستوى الخدمات التي تقدمها بعض الوزارات كالصحة والشئون الاجتماعية، والتفقد الإنساني لاحتياجات الطلاب وخريجي الجامعات عبر تقديم المساعدة في تغطية الرسوم الجامعية، وخلق فرص عمل لأصحاب الكفاءات من بين هؤلاء الآلاف من الشباب، الذين ضاقت بهم - وبغيرهم من سكان القطاع - سبل العيش الكريم.
إن اختبار المصداقية لتلك النوايا، ومهما بلغت الشكوك والتخوفات من مستقبل هذه العلاقة، هو القدرة على الإنجاز للمشروعات المطروحة التي يتحدث عنها الطرفان؛ كإيجاد حل لمشكلة الكهرباء في غزة ومعالجة البطالة وتشغيل الخريجين الجامعيين، وقبل ذلك أو بعده ملف المصالحة المجتمعية، وجبر الضرر الذي لحق بالبلاد والعباد جراء الكارثة الوطنية، التي حدثت قبل عشر سنوات مضت.
نعم؛ من حق كل طرف أن يشعر بالقلق والتوجس؛ لأن ما جرى بين الطرفين من مواجهات مسلحة في يونية 2007 كان فظيعاً، وكان مؤلماً، وأصاب الوجدان الفلسطيني بالصدمة والذهول وبانتكاسة وطنية كبيرة، كانت حقيقة خارج كل الحسابات السياسية والنضالية.
اليوم، بقدر ما نتقدم على الأرض لخلق حقائق مريحة لواقعنا الجديد، والذي نهدف من ورائه إلى استعادة حاضنتنا الشعبية المهلهلة، وترميم بناء الثقة المهزوزة فيما بيننا، والعمل في إطار رؤية وقناعة أننا سنبني - ما هدمناه – معاً، وبتقاسم وظيفي يشارك فيه الكل الوطني، وفق تفاهمات وضوابط مرجعها الرؤية الوطنية الجامعة، والتي يعمل من خلالها كل طرف أو فصيل من أجل الجميع، ومحاولة الضغط على رئاسة السلطة في رام الله ممثلة في الرئيس أبو مازن وحكومة الحمد الله لوقف إجراءاتها العقابية والقرارات التعسفية التي تمس جوهر كرامة وصمود المواطن في قطاع غزة، والمحاصر إسرائيلياً منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً.
ولذا، أقول لكل من لديهم مخاوف وقلق: إن ما يدور في أذهانكم هو حدس مشروع، ونحن الفلسطينيين – للأسف - وعلى مدار أكثر من ستين عاماً نعيش حالة من الملاعنة والتخبط السياسي، ومسيرتنا الوطنية كانت وما تزال بائسة ومتعثرة، ولم ينجح أي تيار أو فصيل وطني أو إسلامي إقناع الشارع الفلسطيني أنه خياره قد جاء على قدر أو أنه يمثل لشعبنا طوق الخلاص وسبيل النجاة.
للأسف، أخفق الجميع - من الكل الوطني والإسلامي - حتى في إيجاد الحد الأدنى من التفاهمات، التي يمكن أن تحافظ على تماسك الشعب والقضية.
لقد أصبح - للأسف - كل شيء في حياتنا حزبياً، والتنظيم هو مركز الثقل والاهتمام، وأحياناً يغمرنا الشعور بأن المصلحة الحزبية تتقدم على الوطن ومنظومة الخلاص الوطنية!!
ومع تشجيعي لما يجري من تحركات وتفاهمات مع إخواننا في التيار الإصلاحي لحركة فتح، والسعي لبلورة رؤية وطنية جامعة، تأخذ ضمن أولوياتها حاجات الناس ومعاناتهم، وخاصة البؤساء والخرجين، وتنشيط المؤسسات الخدمية، وتمتين العلاقة والثقة من خلال سرعة انهاء ملف المصالحة المجتمعية، والذي هو - الآن - على رأس كل الاهتمامات لدى الطرفين، إلا أنني - في الوقت نفسه - أحذر من القطيعة مع القيادة السياسية في الضفة الغربية، والحفاظ على وحدة الموقف والقرار الفلسطيني، حيث إن خطوة كهذه ستؤدي إلى ضياع مشروعنا الوطني، وتكريس القطيعة مع تداعياتها الكارثية بضياع الضفة الغربية لصالح التمدد الاستيطاني الإسرائيلي، وربط ما هو خارج أطماع الاحتلال بالأردن، في سياق خيارات سياسية تمَّ طرحها والإعلان عنها - سابقاً - في دوائر صناعة القرار ومراكز الأبحاث الغربية وكذلك على ألسنة جنرالات الكيان الصهيوني وقياداته السياسية.
كما أن المخاوف ربما تجرنا إلى ما يتردد النقاش حوله في المنتديات السياسية وخلف الكواليس، ألا وهو دولة فلسطينية في قطاع غزة، مع ترتيبات مصرية تنسجم مع ما يجري في الدوائر الغربية لهيكلة المنطقة العربية من جديد، وإنهاء حالة ما يسمى بالصراع العربي – الإسرائيلي، وتجاوز المشروع المتعثر لحل الدولتين، وطي الذكر عنه صفحاً.
من هنا، تأتي تحذيراتي ومطالباتي بعدم الرهان على خيار واحد وحيد أو جهة واحدة، وابقاء المجال متاحاً أمام الخيارات الأخرى؛ أي بالتعبير الفلسطيني الدارج "لا تضع كل ما لديك من البيض في سلة واحده".
نعم؛ الانفتاح مطلوب مع التيار الإصلاحي الديمقراطي؛ لأنه إطار فتحاوي كبير، كما أنه حاضر بشكل مؤثر وفاعل في قطاع غزة، ولدي قياداته وكوادره رغبة حقيقية في المصالحة التاريخية مع الإخوة في حركة حماس، وهذا ما نشهده في تحركاتهم ولقاءاتنا معهم، حيث إننا نجد بأن هناك روحاً جديدة تسري في لغة المواقف والخطاب السياسي.. لكن، ومع كل هذا الاطمئنان الذي أمتلكه وأبشر به، إلا إن الذكاء السياسي والتقدير الحكيم لمخاوف الآخرين؛ سواء من الحركة أو الفعاليات السياسية الأخرى في الشارع الفلسطيني، فإن علينا الحرص أن تظل أيدينا ممدودة باتجاه الرئيس أبو مازن والسلطة في رام الله وحكومة الحمد الله، وألا نفقد الأمل مع ضرورة اعتماد سياسة نشر الأشرعة باتجاه الجميع؛ لأن بقاء هذا الباب مفتوحاً هو عنصر أمان وتوازن لبقاء علاقتنا قائمة مع الأطراف أو الجهات الأخرى.
وكما ذكرت في مقالات سابقة وحول نفس الموضوع، فإن علينا أن نعمل بنظرية "رأس الجسر"، التي توحي لمن هم على الضفة الأخرى بأننا قادمون، وأن أيدينا ممدودة لهم بالخير والسلام، كما أنها تُعجِّل بإرسال إشارات قاطعة للرئيس والسلطة بأننا نبني ونشيد ما يعمل على تسهيل تواصلنا معهم، وأن هذا الانفتاح على التيارات الإصلاحي هو بهدف استكمال الجهد مع باقي قيادات وكوادر هذه الحركة الوطنية العريقة، والتي نعمل على تحقيق شراكة سياسية ونضالية معها، وطي صفحات الماضي وما وقع بيننا من نزغٍ للشيطان، بعد أن أدركنا جميعاً أننا كنا على خطأ تجاه فهم كل منا للآخر، كما أن الفرضية بإمكانية النجاح دون الآخر هي أيضاً كانت حسبة حزبية خاطئة، ولا بدَّ لمشروعنا الوطني ولعربته الثقيلة أن تتحرك، وأن تُسخَّر من أجل ذلك كل مفاعيل القدرة والقوة، بهدف أن تصل بنا وبشعبنا إلى الغاية المرجوة والهدف الكبير في التحرير والعودة.
وعليه، فإنني أترك الوصايا التالية وديعة للطرفين العزيزين:
1- إن المصالحة مع التيار الإصلاحي لحركة فتح هو خطوة نباركها، وندعو لتعزيز بناء الثقة، من خلال العمل الميداني، الذي يخدم حاجات الناس ويخفف من آلامهم.
2- إن التحرك باتجاه خيار الضرورة يجب ألا يقعدنا عن التفكير بتنشيط الخيار الآخر مع الرئيس أبو مازن والسلطة الفلسطينية.
3- إن خيار الضرورة الذي اعتمدناه يجب أن تتوفر له أيضاً قناعة الآخرين من شركائنا في قطاع غزة، وخاصة حركة الجهاد والجبهة الشعبية والديمقراطية، وألا تنفرد حركة حماس بأي قرار استراتيجي دون موافقة هؤلاء الشركاء؛ لأنهم أصبحوا اليوم ضمن حسابات المغرم والمغنم.
4- إن التركيز في السنوات الخمس القادمة يجب أن يكون لتحسين أوضاع الناس وترشيد أفكارهم، والبحث عن ساحات ومشاريع عمل لتشغيل الكم الهائل من العاطلين عن العمل، وخاصة في أوساط الخرجين.
5- ضرورة العمل مع مصر لتثبيت التهدئة مع الاحتلال، وسد باب الذرائع أمام أي عدوان إسرائيلي جديد على قطاع غزة، والابتعاد عن قرقعة السلاح ومظاهرة التي توحي بالعسكرة والاستفزازات، التي تعني للآخرين مظاهر النفوذ والسيطرة وليس المقاومة، حيث إن من أبجديات العمل المقاوم توخي السرية والكتمان وليس الفشخرة، والمبالغة في الخروج وإظهار زينة الأنا الحزبية المسلحة.
6- إن سنوات الهدوء المطلوبة للبناء وإصلاح الذات الوطنية، تحتاج إلى تسخير بعض إمكانيات الفصائل وخاصة الكبيرة منها، وعلى وجه التحديد حركة حماس، لاستثمار ما لديها من "سعة اليد" وبسطة التنظيم والخبرة، من حيث الإمكانيات الهندسية المتطورة والطاقات المدربة، للمساهمة في عملية البناء التي هي الآن حاجة ملحة وأولوية وطنية.
7- نعم؛ التيار الإصلاحي سيتولى جبهة تفكيك الحصار عن قطاع غزة من ناحية، وتوطيد أركان العلاقة مع مصر من ناحية أخرى، كما أنه سيعمل على محاولة إخراج القطاع من دوائر الاستهداف بدعوى الإرهاب، وجلب الكثير من الدعم الإغاثي والإنساني، وأيضاً الاجتهاد على تطوير البنية التحتية، كإنشاء محطة للكهرباء ومستشفى متخصص يُعفى أهل قطاع غزة مما يسمي العلاج بالخارج.. من هنا، فإن الضرورة تقتضي إعطاءه الدور والمكانة والدعم الوطني المطلوب للتحرك لفوة في الساحات الخارجية، مع حضور إداري واضح له وللآخرين في كافة المرافق المدنية.
8- العمل على تنشيط حركة الوسطاء لإبقاء الباب موارباً مع الرئيس والسلطة، وعدم ترك الرئيس فريسة سهلة للإسرائيليين، بالرغم من خلافنا مع سياساته، التي تثير الكثير من التساؤلات حول سياقاتها الوطنية.
9- في تحركاتنا باتجاه دحلان ومصر، فإنه يتوجب أن تكون مواقفنا وسياساتنا واضحة تجاه الجميع من أصحاب الفضل علينا، وهو أننا خارج لعبة التحالفات في المنطقة، وأننا كأصحاب قضية أممية نريد الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع الجميع؛ باعتباره عمقاً استراتيجياً لشعبنا وقضيتنا.. فالعلاقة مع مصر مثلاً، لا تعني قطيعة مع قطر أو تركيا أو إيران، بل هي حالة من التكامل، للحفاظ على إمكانيات الأمة التي ترى في فلسطين السليبة أنها قضيتها المركزية الأولى.
10- إن علينا إظهار مصداقية رؤيتنا الوطنية، والتي حملتها وثيقة حماس السياسية الجديدة، من حيث التأكيد على أننا جزء من الكل الوطني الفلسطيني، وأن أيدينا ممدودة باتجاه الشراكة السياسية، وأن البوصلة في إطار رؤيتنا الوطنية هي للقدس وأن المسجد الأقصى هو العنوان وكلمة السر التي تجمعنا كأمة عربية وإسلامية؛ أي أننا نحمل مشروعاً وطنياً يتوافق عليه الكل الفلسطيني؛ باعتبارنا "رأس النفيضة" أو الحربة فيه، وأن الأمة العربية والإسلامية هي عمقنا الاستراتيجي، وهي قوتنا الدافعة لتحقيق طموحات شعبنا في التحرير والعودة.
ختاماً: من خلال معايشتي وعملي في العديد من مؤسسات المجتمع المدني - كهيئة الوفاق الفلسطيني - مع شخصيات من قيادات هذا التيار الإصلاحي في قطاع غزة، وجدت أن هناك حرصاً ووطنية صادقة للعمل لإنهاء هذا الانقسام البغيض واستعادة وحدة الشعب والوطن، وقد جمعتني مع صديقي د. أسامة الفرا؛ رئيس هذا التيار في قطاع غزة، الكثير من اللقاءات وجلسات العمل والتي لم يكن لنا من همٍّ إلا هذه الإشكالية والمحنة الوطنية، وكنت أدرك دائماً بأن المشكلة الحقيقية هي فينا جميعاً كفلسطينيين، حيث إننا لم ننجح في تكييف علاقة الانقسام وتحقيق المصالحة الوطنية.
إننا نأمل بهذا الانفتاح والتصالح مع التيار الإصلاحي من حركة فتح العتيدة، أن يكون مدخلاً لرأب الصدع مع الكل الفلسطيني، وذلك في إطار رؤية جامعة عنوانها الشراكة والتوافق الوطني، وتعميق التفاهم والارتباط بالكل العربي والإسلامي بما يخدم مصالحنا الوطنية العليا.