السبت: 30/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

القدس ورهان إسرائيل على الوهن الفلسطيني

نشر بتاريخ: 24/07/2017 ( آخر تحديث: 24/07/2017 الساعة: 12:31 )

الكاتب: رازي نابلسي

فوّض المجلس الوزاريّ الإسرائيليّ المصغّر للشؤون الأمنيّة والسياسيّة- "الكابينت"، في اجتماعه الذي عقد يوم الخميس الموافق 20/7/2017، الشرطة الإسرائيليّة ووزارة الأمن الداخليّ باتخاذ القرار الذي تراه ملائمًا بخصوص إزالة أو الإبقاء على البوّابات الإلكترونيّة التي نصبتها قوّات الاحتلال على أبواب المسجد الأقصى. وبذلك، يكون "الكابينت" قد اتخذ قراره بالإبقاء على البوّابات الإلكترونيّة، خاصة أنّه فوّض الجهة التي دعمت الإبقاء على البوّابات مقابل معارضة جهاز الأمن الداخليّ العام "الشاباك" والجيش الإبقاء على البوّابات، حيث اقترحا بدائل تحافظ على الاستقرار الأمنيّ وتمنع الانجرار نحو مواجهة قد تكون لها عواقب على الحالة السياسيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة والأراضيّ المحتلة العام 1948.
وبغض النظر عما إذا كان "الكابينت" سيتخذ في نهاية المطاف قرارًا بإزالة البوّابات الإلكترونيّة، أم لا، يرى هذا التقدير أن إسرائيل بمستوييها السياسيّ والأمنيّ، اتخذت هذا القرار مراهنة على وهن الحالة الفلسطينيّة السياسيّة، واستغلالها لفرض وقائع جديدة في المسجد الأقصى.
المشهد الإسرائيليّ: بين رواية الإعلام ونيّة كسر الإرادة
منذ إعلان الأوقاف الفلسطينيّة يوم الخميس الماضي إغلاق كافة المساجد في مدينة القدس، والدعوة إلى الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، تبنّى الإعلام الإسرائيليّ رواية "النزول عن الشجرة التي صعد إليها كل من إسرائيل والأوقاف الفلسطينيّة في القدس" في سياق التحليل السياسيّ. وفي الحقيقة، تشير تصريحات المستوى الرسميّ الحكوميّ الإسرائيليّ، والمستوى الأمنيّ؛ أي المستويات المخوّلة باتخاذ القرار بعيدًا عن التحليل، إلى أن الشرطة الإسرائيليّة راهنت على قدرتها على احتواء وقمع الحراك الذي سيرد به الشارع الفلسطينيّ على قيام إسرائيل بتغيير الوقائع والإجراءات المتّفق عليها مع الأوقاف، وبالتاليّ أولًا فرض وقائع تخطّط لها إسرائيل بالسيطرة على المسجد الأقصى والرقابة عليه؛ وثانيًا قمع الشارع المقدسيّ وكسر إرادته.
وقد أكد ذلك، عمليًا، تصريح قائد شرطة لواء القدس، للقناة الإسرائيليّة الثانيّة، عند سؤاله عن إسقاطات البوّابات الإلكترونيّة وإمكانيّة إشعال المنطقة، بالقول إنّ "هناك تقديرات تشير إلى اندلاع انتفاضة ثالثة بسبب بوّابات إلكترونيّة، أنا أعتقد أن هناك أمورًا أكثر خطورة استطعنا التعامل معها، ونحن نثبت مرّة تلو الأخرى أننا جاهزون لكل ما يمكن أن يحصل". وهو ما يلتقي مع تصريح وزير الأمن الداخليّ، غلعاد إردان، الذي قال صباح الأحد (23/7) إنه "لم تكن هناك معلومات استخباراتيّة بشأن انهيار الوضع الأمنيّ في المسجد الأقصى. وتم طرح القضيّة ولم يتوقّع أي من أجهزة الأمن (الجيش؛ الشرطة؛ الشاباك) أن الرد سيكون بهذا الحجم. لم يقم أي من الأجهزة بطرح السيناريو الذي حدث فعلًا".
وما يؤكّد هذا التوجّه لدى إسرائيل؛ أي استغلال العمليّة والحالة الفلسطينيّة، تصرريح وزير التعاون الإقليميّ، تساحي هنغبي، بأنّه حين كان وزيرًا للأمن الداخليّ، تم فتح باب المغاربة لدخول اليهود إلى المسجد الأقصى على الرغم من كل التحذيرات والتوقّعات باشتعال انتفاضة، ويقول "ها هم اليهود يدخلون الأقصى اليوم بكل حريّة، لا يجب علينا أن نخاف وعلينا أن نضرب بيد من حديد".
من هذه الزاوية، يمكن قراءة التوجّه الإسرائيليّ على أنّه عمليّة جس نبض سياسيّ للشارع الفلسطينيّ، خاصة المقدسيّ الذي لا يزال يشكّل نقطة الاشتباك الأكثر فعالية في فلسطين التاريخيّة. ومن هذه الزاوية أيضًا، يمكن فهم الخلاف بين الشرطة من جهة، والجيش والشاباك من جهة أخرى، وكيف آلت الأمور إلى ترك القرار للشرطة التي اتخذت قرارًا رأت أنّها قادرة على تطبيقه. ومن هذه الزاوية فقط، يمكن فهم تصريح وزير الأمن الداخليّ بأن أحدًا لم يطرح السيناريو الذي حدث فعلًا في الميدان. إذ يشكّل هذا التصريح الأخير، توزيعًا للمسؤوليّة التي وقعت على كاهل شرطة الاحتلال والوزير، بعد أن ترك نتنياهو لها القرار. وبقوله هذا عمليًا، يحاول الوزير عدم تحمّل المسؤولية كاملة عما حصل خلال الأيّام الأخيرة والتبرؤ منه باعتباره "حملًا مشتركًا على جميع الأجهزة".
وحدة الهدف والانقسام حول سبل تحقيقه
باستثناء حزب "ميرتس" الذي لا يمثّله إلّا 5 أعضاء كنيست، فإن المشهد الإسرائيليّ جميعه، بمعارضته وائتلافه الحكوميّ، يجمع على نيّته تغيير الواقع في المسجد الأقصى المبارك. وهذا ما يشير إليه النقاش الذي جرى بين هنغبي وعضو الكنيست عن المعسكر الصهيوني نحمان شاي، إذا كان الخلاف بينهما على الطريقة التي ستتم فيها مراقبة وتفتيش مداخل المسجد الأقصى، وليس على فعل التغيير الذي تطمح إسرائيل لتمريره على الوضع القائم في المسجد. وللدلالة أكثر، فإن ذات النقاش احتدم بين وزيرة الثقافة ريغيف وعضو الكنيست عن المعسكر الصهيونيّ عومر بار ليف. إذ قال بار ليف "على إسرائيل أن تكون أكثر إبداعًا دون إشعال انتفاضة ثالثة".
من هنا، يمكن استدلال النيّة الإسرائيليّة الحقيقية، في تغيير وضع قائم في المسجد الأقصى، إلّا أن الخلاف يبقى على الثمن الذي ستدفعه إسرائيل لقاء هذا التغيير ليس في القدس فقط، بل في الضفّة والقطاع أيضًا، خاصة أنّه بعد العمليّة التي قتل فيها ثلاثة إسرائيليون في مستوطنة "حلاميش" بات الموضوع خارج نطاق عمل الشرطة، فدخل الجيش، الذي يعارض منذ البداية التعنّت حول البوّابات الإلكترونيّة، ويدعو إلى ضبط النفس لعدم جر الضفّة الغربيّة إلى مواجهات ستتسبّب في انهيار حالة "الاستقرار الأمنيّ" النسبيّ.
الثمن الذي تدفعه إسرائيل هو المحدّد الرئيس لسياساتها. سؤال الثمن، هذا هو السؤال الإسرائيليّ الدائم والمستمر منذ إعلان إسرائيل نيّتها وضع بوّابات إلكترونيّة على مداخل المسجد الأقصى. لذلك، من المهم جدًا النظر إلى المشهد الإسرائيليّ بعد العمليّة التي حصلت مساء يوم الجمعة الماضي في مستوطنة "حلاميش". مباشرة بعدها بات الجواب عن سؤال الثمن أكثر وضوحًا: جميع التكهّنات تحقّقت وبسرعة غير متوقّعة. وعلى الرغم من حقيقة أن إسرائيل اتجهت بعد العمليّة على مستوى التصريح إلى التصعيد بالرد إلّا أن قيادتها الأمنيّة تصرّفت على الأرض بصورة مغايرة: اجتماعان يوم الأحد لبحث التطوّرات؛ تصريحات منسّق أعمال الحكومة في الأراضيّ المحتلة بأن الحكومة الإسرائيليّة تسعى للبحث عن بدائل؛ تأخير هدم بيت الأسير منفّذ العمليّة في قرية كوبر على الرغم من إيعاز نتنياهو بالهدم الفوريّ؛ التأنّي في إشعال نقطة مواجهة في كوبر والانسحاب مرّات عدّة من القرية؛ التجهيزات لمواجهات قد تستمر لأكثر من أسبوع بحسب تصريح رئيس هيئة الأركان غادي آيزنكوت. إذا ما أضفنا إلى هذه الممارسات جميعها تصريح آيزنكوت بأن "ما نشهده الآن يختلف عما كان في العام 2015 من حيث أن الدافع دينيّ أكثر ممّا هو قوميّ"، فإنه يدل على سياسة إسرائيليّة حذرة بعد العمليّة، تختلف عمّا كان قبلها، من حيث التعنّت وترك الأمور للشرطة التي يقودها وزير عديم الخبرة ومفتّش عام متديّن وجديد نسبيًا على الجهاز.
القدس: حين بثّت الحياة
عوّلت إسرائيل إذًا على الحالة السياسيّة الفلسطينيّة وانقسامها وتردّيها. وأرادت فرض واقع مادّي في المسجد الأقصى، مستغلة هذا الواقع السياسيّ والبلبلة التي حصلت في صفوف النخب السياسيّة الفلسطينيّة على شقي الخط الأخضر، في أعقاب العمليّة التي نفذها الشهداء الثلاثة من أم الفحم. إن ردّة الفعل الشعبيّة، على قرار الاحتلال جاءت لتدلّل أولًا على الفجوة ما بين النخب السياسيّة التي تردّدت وتخبّطت وبين القاعدة التي كان قرارها حاسمًا وصلبًا برفض البوّابات الإلكترونيّة والذهاب حتّى النهاية في حرب استنزاف لكسر الإرادات؛ وأن المسجد الأقصى خاصة، والقدس عامة لا يزالان يشكّلان بؤرة صراع حيّة، قادرة على استقطاب الشارع، غير مرتبطة بالحالة السياسيّة التي تعيشها النخب السياسيّة الفلسطينيّة ثانيًا؛ وأن الشعب في الضفّة الغربيّة، والداخل خصوصًا، لا يزال قادرًا وجاهزًا للتضحية في سبيل قضيّة وطنيّة مجرّدة من توجّهات النخب السياسيّة وخارجة عن إرادتها وجاهزًا لذلك. هذا الواقع، هو الواقع ذاته الذي دفع إردان إلى البحث عن تقاسم المسؤوليّة، وهو ذات الواقع الذي فاجأ أجهزة الأمن الإسرائيليّة وأرغمها على البدء بالبحث عن بدائل لا يزال الشارع يرفضها كتوجّهات عامّة. وفي الحقيقة اعتقدت أجهزة الأمن الإسرائيليّة أن الأمور تتجه نحو التهدئة بعد انتهاء الصلاة يوم الجمعة وسقوط الشهداء، فسرّحت كتيبتين من الشرطة المتواجدة في القدس. ولكن المدينة فاجأت مرّة أخرى، مع صلاة العشاء في باب الأسباط، ومع عمليّة "حلاميش"، بقدرتها على استقطاب الفلسطينيّ دون أن يصل إلى المدينة كجسد مادّي.
بالنسبة إلى الاحتلال، فإن تسلسل الأمور كان واضحًا بخصوص القدس: عمليّة ينفذها شبّان من الداخل المحتل العام 1948؛ فمواجهات في المدينة ذاتها تستمر ثلاثة أيّام؛ فعمليّة أخرى ينفذها شاب من الضفّة الغربيّة في مستوطنة وراء الخط الأخضر. هذا التسلسل للأمور لا يزال يُثبت أن المدينة هي فوق التقسيمات السياسيّة وفوق المشاريع السياسيّة. ومن هذه الزاوية، يأتي السؤال: ماذا بعد؟ خاصة وأن التحريض والوعيد الإسرائيليين يطالان دائرة واسعة تمتد من حزب التحرير الذي ينشط في الأراضيّ المحتلة العام 1967 إلى الحركة الإسلاميّة ونفي الشيخ رائد صلاح حسبما صرّح ليبرمان، وأعضاء الكنيست وباقي الأحزاب في الداخل الفلسطينيّ.
إن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو قيام إسرائيل بإزالة البوّابات وطرح بدائل لها مثل الكاميرات الذكيّة. وفي حال استمرّت المواجهات والرفض الشعبيّ الفلسطينيّ للبوّابات والبدائل المطروحة التي لا تقل خطورة عنها، فإن إسرائيل باعتقادي سترضخ للإرادة الفلسطينيّة، خاصة وأنّها باتت تتخبّط بعد أيّام قليلة من المواجهات: يتنصّل الوزير الذي اتخذ القرار من قراره، وتنتقد قيادات الشرطة الوزير والمفتّش العام بشأن القرار، ويتعهّد وزراء الكابينيت بعدم تسريب أي أخبار. أمّا الخطورة الجديّة على الحالة السياسيّة والاجتماعيّة في القدس جرّاء طرح إسرائيل لبدائل عن البوّابات، فتكمن في ما يمكن أن يصاحب هذه البدائل من تخبّط فلسطينيّ يقسم الصف الواحد، بين قبولها وعدمه، بين البوّابة الإلكترونيّة والكاميرا الذكيّة أو التفتيش اليدويّ، بين السيطرة على أبواب المسجد الأقصى ببوّابة أو بكاميرا وكاشف معادن.
إن المطلوب الحفاظ على الحالة السياسيّة- الاجتماعيّة في القدس، التي شكّلت رافعة شعبيّة واحدة موحّدة واحتضنتها، هي بحد ذاتها إنجاز في واقع سياسيّ مأزوم. ومن هذا المنطق يمكن النظر إلى الانتصار على أنّه انتصار حالة سياسيّة على أخرى، ولتحقيق مثل هذا الانتصار هناك حاجة أولًا للحفاظ على موقف واحد وموحّد ضد سياسات إسرائيل للسيطرة على المسجد الأقصى عمومًا، ورفض البوّابات وأي بديل لها يقوم بدورها.
في حال استمر الرفض، وتنازلت إسرائيل عن البوّابات والبدائل، وهذا في الحقيقة، انتصار فلسطينيّ في معركة وليس انتصارًا في الحرب. وأتوقّع أن تقوم إسرائيل في المرحلة المقبلة بتجفيف المنابع والبنى التي ساعدت على تحقيقه، لكي لا يتكرّر. هذه طبيعة الاستعمار، وهذا جوهر الفكرة الاستعماريّة الساعية إلى القتل والفتك بكافة البنى المساندة على الصمود. وبالتاليّ، فإن هذه المعركة ليست إلّا دلالة على نوايا إسرائيل الحقيقيّة تجاه المسجد الأقصى والحاجة الملحّة فلسطينيًا لتعزيز المدينة وتعزيز صمودها في وجه القادم.