السبت: 30/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الاقصى في عين الحدث

نشر بتاريخ: 24/07/2017 ( آخر تحديث: 24/07/2017 الساعة: 12:41 )

الكاتب: زهير الشاعر

إن ما تشهده التطورات المتعلقة بأحداث المسجد الأقصى في الساحة الفلسطينية وخارجها من تطورات أمنية خطيرة خاصة فيما يتعلق بالأحداث الدموية التي تشهدها مدينة القدس المحتلة والتي باتت تهدد أن تفسح المجال أمام اتساع رقعة العنف في مدن الضفة الغربية المحتلة للانخراط بشكل أوسع في هذه المواجهات، مما يخلق حالة من القلق الفردي والإنساني والمجتمعي والمحلي والإقليمي والدولي، حيث أن حياة الإنسان أي كان دينه ومعتقده هي حياة غالية الثمن في المعادلة البشرية لا يجب إهدارها أو تعريضها للخطر.
كما أن المعتقدات الدينية لأي شعب في الوضع الطبيعي، من المفترض أنها تمثل هويته الإنسانية والحياتية التي تنبع من حالة إيمانية لا يمكن القبول بمساسها، لأن عكس ذلك يعني إفساح المجال أمام تَفَجُر كل الطاقات الكامنة بداخل أبنائه إن شعروا بتعرضها لأي خطر، فما بالنا في الحالة الفلسطينية التي باتت ترتهن لصراعٍ تاريخي أصبحت مرتكزات حمايته التفاوضية والإقليمية والدولية قبيحة، وذلك بين شعب يتطلع للحرية والاستقلال وحكومة احتلال من المفترض أن عليها التزامات أخلاقية وقانونية بحكم القانون الدولي يجب عليها احترامها خاصة فيما يتعلق بحرية العبادات.
هذا عوضاً عن أن المسجد الأقصى لا يمثل في الحقيقة حالة عابرة أو هو كأي مسجد آخر، بل هو يمثل الجوهر الحقيقي للصراعٍ حول الوجود بين شعبٍ مُحتَل وقوة احتلال، مما يمثله من قدسية وهوية عقائدية في سياق المفاهيم الإسلامية السائدة التي تتحدث عن أنه يمثل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وهو أيضاً مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما ورد في القرآن الكريم في سورة الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، كما أنه يمثل حالة تراثية وتاريخية تمثل مصدر اعتزاز للشعب الفلسطيني بهويته الإسلامية وبأنه جزء من أمته العربية والإسلامية، وهذا ما يفسر حالة الغضب الكبيرة التي انتابت الشعب العربي الفلسطيني في كل أماكن تواجده، وخاصة بين أبناء القدس المحتلة، بعد أن فرضت قوات الاحتلال إقامة بوابات إلكترونية أمنية، فسرها الفلسطينيون بشكل عام والمقدسيون بشكل خاص بأنها تنطوي تحت بند أن هذا الفعل يمثل بداية للاستيلاء على هذا الوقف الإسلامي المقدس لديهم، وتغيير معالمه التاريخية التي ترمز لهويتهم وصمودهم وتمس بحملهم الأمانة الموروثة التي لابد من الحفاظ عليها حسب ثقافتهم الدينية والوطنية.
كما أنهم رأوا بأن إقامة مثل هذه البوابات الإلكترونية يهدف بالأساس لتغيير معالم هذا المكان المقدس من الناحية الدينية، تمهيداً للبدء بتنفيذ مراحل متقدمة في سياق توحيد شطري مدينة القدس والسيطرة عليها بالكامل لصالح الجانب الإسرائيلي لتصبح عاصمة موحدة وأبدية لهم، وذلك لترسيخ فكرة يهودية الدولة التي لا زالت تجد رفضاً فلسطينياً عاماً وشاملاً، رسمياً وشعبياً، وتخلق تخوفات لدى الجانب الفلسطيني من ما سيترتب على ذلك من إمكانية البدء بتنفيذ بناء الهيكل المزعوم على حساب هدم المسجد الأقصى وعملية ترحيل جماعية للفلسطينيين العرب من الدولة المزعومة التي ستحمل الطابع الديني وهذا بدوره سيدفع باتجاه خلق حالة من الصراع الديني.
لذلك خرج الرئيس الفلسطيني محمود عباس بخطاب ذكي وغير مسبوق بلغته ومقرراته الجريئة، مما جاء فيه من تعبيرات استخدمها لأول مرة منذ مجيئه إلى سدة الحكم، فسره البعض بأنه خطاب غير قابل للتنفيذ خاصة فيما يتعلق بشق التنسيق الأمني، وكان يهدف فقط إلى تنفيس حالة الغضب الكامنة في صدور الفلسطينيين في الضفة الفلسطينية.
أما البعض الآخر من المحللين رأوا بأن ما جاء في الخطاب يمثل خطوة مهمة بالرغم من أنه جاء كانعكاس لحالة قلق كبير وإدراك مبكرة لخطورة المرحلة وانعكاسات الأحداث القائمة على منظومته، لا بل لربما خشية من انفلات الأمور وتوسعها، وبالتالي خروجها عن السيطرة، واستغلالها من خصومه لتوجيهها في وجه منظومته التي تعاني من أزمة ثقة بينها وبين الشارع الفلسطيني، وبالتالي لربما ستكون بداية لتعديل بوصلته الرئاسية بخصوص الاهتمام بمتطلبات الساحة الوطنية الداخلية.
هنا لا بد من التطرق لأهم ما جاء في هذا الخطاب، وهو دعوته لحركة حماس الفلسطينية التي تسيطر على قطاع غزة لحل اللجنة الإدارية التي شكلتها وذلك فوراً، حيث أنها باتت تمثل تحدياً كبيراً أمام منظومته وانتقاصا من نفوذه وشرعيته، وخروجاً متدحرجاً عن سيطرته بالمطلق، كما أنه دعا إلى التوافق الفوري من أجل إفساح المجال أمام حكومة الوفاق الوطني لتسلم مهامها في قطاع غزة، والبدء بالتحضير لانتخابات عامة (رئاسية وتشريعية ومجلس وطني)، وهناك من المعلومات ما يشير أن الأخيرة قد تقبل بهذه الدعوة وتقذف بالكرة في ملعبه، إن توفرت لها ضمانة بتنفيذ ما سيتم الاتفاق عليه بين الطرفين بخصوص العمل الحكومي، والبدء الفوري بإيقاف الإجراءات العقابية المتخذة بحق أبناء قطاع غزة، هذا عوضاً عن أن هناك أحاديث بدأت تدور بين المثقفين الفلسطينيين حول إمكانية التوجه لتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ وطني خلال الأسابيع القادمة، على أن ترأسها شخصية مستقلة بديلة لحكومة الوفاق الوطني التي يرأسها د.رامي الحمد الله والتي لم يكتب لها النجاح والتوفيق في ترميم العلاقات بين شطري الوطن أو إيجاد حلول عملية لتخفيف الأعباء عن كاهل المواطن، وذلك بسبب أنها لم تعمل في ظل ظروف وطنية طبيعية أو بأدوات وزارية مقتدرة على مواجهة التحديات وتحمل المسؤوليات التي أُنيطت بها.
في تقديري أن أحداث الأقصى لا تمثل تحدياً أمام إسرائيل فقط، بالدرجة الأساسية، بقدر ما تمثل خطراً على منظومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه من جهة، وخطورة على الأمن الإقليمي والدولي من جهة أخرى، وبالتالي بات الأمر يحظى باهتمام إقليم ودولي وعليه ستعقد جلسة لمجلس الأمن اليوم الإثنين لمناقشة الوضع الأمني القائم في القدس وتحدياته.
أما بالنسبة للرئيس الفلسطيني محمود عباس فهذا الأمر يمثل تحدياً حقيقياً ومأزقاً يحتاج إلى آلية فاعلة تقنع الشارع الفلسطيني بأنه ذاهب لتغيير حقيقي ملموس من خلال الخروج من حالة الأقوال المتكررة إلى حالة الأفعال العملية التي تحتاج إلى ترجمة حقيقية وفعلية، يلتمسها الشارع الفلسطيني وذلك للارتقاء بالعمل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني، لمستوى التحديات التي باتت تواجه منظومته من جهة والقضية الفلسطينية برمتها من جهة أخرى، وذلك في ظل انسداد الأفق السياسي وتضاؤل فرص نجاح العملية السياسية وما نجم عن ذلك من ضياع للأرض وتهديد حقيقي لضم مدينة القدس ولربما أكثر من ذلك.
هذا الأمر يحتاج إلى قرارات مسؤولة تتناسب مع تطلعات الشارع الفلسطيني لجلبه مرة أخرى لحلبة الثقة التي باتت مفقودة بينه وبين القيادة الفلسطينية، وليس إلى خطوات تترجم الهروب بشكل آخر، وذلك إلى الأمام تساوقاً مع متطلبات مشاعر ملتهبة أو مع متطلبات أجنداتٍ متناقضة، في خطوةٍ تُفَسَر على أنها تأتي في سياق مراهنة أخرى على حرق الوقت لاحتواء تأثيراتهما، حيث أنه بات من الضروري إدراك أن الواقع لم يعد يحتمل الإصرار على الذهاب في حالة الانتحار المؤجل، من خلال التأجيل المستمر والمتكرر للانفجار الذي بات متوقعاً في أي لحظةٍ ولا يعرف أحد في أي اتجاه سيكون، بل يتطلب عقلانية، وحوار بناء، وانفتاح فكري ووطني، ومشاركة فاعلة، تبدأ بتغيير حكومي حقيقي يشمل جميع الحقائب الوزارية بلا استثناء، على أن يُستَبدَل جميع الوزراء الحاليين بكفاءات حقيقية ليس عليها أي سوابق فساد أو تحفظات شعبية أو سلوكيات عبثية، ولديها القدرة على بذل الجهد الحقيقي والصادق، للمشاركة في إنقاذ الوضع الوطني العام، وإخراج العمل الوزاري المؤسساتي من حالة الاتكالية التي تحصر نجاحاتهم في صورٍ فوتوغرافية أو منشورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ليس لها علاقة بمتطلبات الواقع وتحدياته وتحسين الواقع البائس للمواطن الفلسطيني.
لذلك وبعيداً عن التخوفات التي يعبر عنها البعض من المنتفعين والذين يخشون التغيير أرى أنه من المفيد أن يتم ترشيح المؤسسة الأمنية الفلسطينية صاحبة العلاقة والتي تحظى بالثقة لدى رأس الهرم الفلسطيني، والتي من المفترض أنها تمثل الضمانة وصمام الأمان لجميع الأطراف في المعادلة الفلسطينية ، لأن تضع تصوراً مهنياً ووطنياً محايدا ومسؤولاً وسريعاً، يحمل توصيات حول آلية الاختيار للشخصية المناسبة التي تستطيع أن تقود الحكومة الفلسطينية في المرحلة القادمة على أن تأخذ بعين الاعتبار ضرورة ضمان تمتُع هذه الشخصية بالخبرة بتعقيدات وتحديات الوضع الفلسطيني القائم وبحرية الحركة والقبول الإقليمي والدولي والتوافق الوطني حولها، بحيث تكون قادرة على استرجاع الوحدة الفلسطينية بين مؤسسات شطري الوطن أمنياً وإدارياً ومهنيا ومؤسساتياً، وهذه الأمور أعتقد أنها متوفرة في هذه المرحلة الحساسة في شخصية رئيس الوزراء السابق د. سلام فياض الذي على ما يبدو بأنه حافظ على أن بقى بعيداً عن التجاذبات القائمة وتربطه علاقات متوازنة حتى لو كانت بحدها الأدنى، وذلك مع جميع الأطراف الفلسطينية المتناقضة، عوضاً عن أنه يتمتع بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف المحلية والإقليمية ذات الصلة والعلاقة بالمشكلة الفلسطينية، كما أنه يحظى بالثقة لدى المجتمع الدولي، ولا أعتقد أن يكون هناك مشكلة جوهرية بالتعاون بينه وبين الرئيس الفلسطيني محمود عباس في قيادة هذه المرحلة الحساسة ومواجهة تحدياتها والبدء الفعلي والعملي بالتحضير للانتخابات العامة ضمن جدول زمني محدد ومتفق عليه بين جميع الأطراف الفلسطينية وبالتوافق مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بهذا الشأن.
لذلك في تقديري أنه لم يعد هناك مجال لاستخدام اللغة المزدوجة التي تعطي جميع الأطراف فرصة لكسب المزيد من الوقت، ومساحة من المراوغة والهروب من تحمل المسؤولية، بل حان الوقت للفعل الحقيقي للتلاقي حول المصلحة الوطنية العليا وذلك في سياق احترام آلية الشراكة الحقيقية وليس الإقصاء والصراع على السلطة والنفوذ، وحينها سيكون للقدس شأن آخر، وللأقصى حماية خاصة ومكانة راسخة وقوية، ولمنظومة الرئيس الفلسطيني محمود عباس فرصة للإفلات من التحديات التي تواجهها لا بل ستكون مظلة لجميع المكونات الفلسطينية.