الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

كتب وبرامج السيّر الذاتية الأكثر قراءة ومتابعة

نشر بتاريخ: 24/07/2017 ( آخر تحديث: 24/07/2017 الساعة: 13:06 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

لا كتاب يشدني أكثر من كتاب السيرة الذاتية، ولا عمل تلفزيوني يجذبني لمتابعته بشغف وحماسة أكثر من تلك المتعلقة بالسيرة الذاتية، سواء تم انتاجها برامجياً أو حلقات درامية.
ومن أمتع السيّر التي قرأتها أدباً على شكل مذكرات، السيرة الذاتية للكاتب السوري الكبير حنا مينة، التي كتبها في سياق نصوص إبداعية أو في سياقات أخرى كمذكرات، وان لم يأت ذلك في اطار كل متكامل.
ف"كيف حملت القلم" أقرب الى المذكرات الثقافية الإبداعية.
ولعل الممحص في كتاب "الأيام" لعميد الادب العربي د.طه حسين، يكتشف أن في هذا العمل، ما هو مرشح للتعلم و الاستزادة على مدى عشرات السنين القادمة.
و من السيّر التي أعجبت و تأثرت بها لكتاب فلسطينيين، "رحلة جبلية" للشاعرة الكبيرة فدوى طوقان، ومذكرات المفكر الفلسطيني هشام شرابي "الجمر والرماد"، و "البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا.
وأعجبت كذلك بالأسلوب الذي تناول فيه الكاتب محمود شقير مذكراته في قريته و في مدينتي القدس و رام الله. وقرأت عشرات السيّر المترجمة لكتّاب روس و من أمريكا اللاتينية و دول افريقية و اسيوية مختلفة .
كان لي تجربة محدودة في كتابة المذكرات، في كتابي الأخير "البستان يكتب بالندى- شذرات من مذكرات" فقد نفذت طبعتاه الأولى و الثانية في زمن قياسي و حُولت أجزاء من نصوصه الى أعمال مسرحية نفّذها طلبة مدارس في القدس و رام الله بإشراف جمعية الرازي، لاكتشف أن السّيرة الذاتية تقرب الكاتب من القارئ و تقوي عُرى الصداقة بينهما إذا صدّق القارئ أن الكاتب قد قدم مذكراته بموضوعية بعيداً عن نفخ الذات و تعظيم التجربة.
في برنامج "عاشق من فلسطين " الذي أنتجته فضائية معاً، حيث قمت بإعداد و تقديم خمسينَ حلقة تلفزية، كانت مثابة تكثيف للسيّر الذاتية للكتاب و المبدعين الذين استضفتهم، لأخرج بالخلاصة التلية:
أولاً- أن المشاهد تواق لمعرفة تفاصيل حياة الكتّاب و الأدباء، كما يروونها هم بأنفسهم.
ثانياً- إن كل تجربة حملت عديد المعطيات و المعلومات و المواقف التي يمكن التعلم منها.
ثالثاً- يستطيع المتابع استكشاف و تحديد من تحدث عن نفسه بصدق و موضوعية و من بالغ في بعض المواقع، و هذا سر إلحاح المشاهدين على إعادة حلقات معينة من البرنامج، بالإشارة بوضوح الى الأسماء.
رابعاً- عندما يسرد كاتبٌ أجزاء من سيرته الذاتية في الزمان و المكان، و كأنه يؤرخ تلقائياً لمرحلة، حيث يصعب الحديث عن الذات بمعزل عن الموضوعي .
إن اجرأ أنواع السيّر الذاتية التي يكتبها إنسانٌ ما ، و يتحدث فيها بوقائع دامغة، و يأتي على ذكر أناسٍ أحياء، وهو يراهن على صدقه و صحة معلوماته، ولا يخشى أن يقوم الذين ذكرهم في مذكراته، بالاحتجاج عليه و تكذيبه، ما دام يستند الى وثائقه و حقائقه ، و يسعى الى تقديم روايته، بوضع الأمور في سياقها الصحيح.
ومعلوم أن السيرة الذاتية، و خلال تقديم معلومات شخصية عن الشخص الراوي، تضع القارئ في صورة مدينة أو دولة في مرحلةٍ ما، في عديد الجوانب، ففدوى طوقان، حينما تحدثت عن طفولتها، أعادت تشكيل المشهد في نابلس، على صعيد الاسرة و الحي في المجالات الاجتماعية ، العادات و التقاليد، الموقف من الفتاة، التمييز بين الذكر و الانثى، التعليم، الشعر، الزيّ ، المناسبات، التكوين النفسي للناس وكل ذلك ضمن تفاعلهم في المكان.
في مذكرات هشام شرابي التي أنطلق فيها من مرضه، و شعوره أن هذا المرض الخبيث بات يقربه تدريجياً من النهاية، بالرغم من أنه ظل متشبثاً بالأمل حتى اللحظة الأخيرة، عاد بنا شرابي الى طفولته في عكا، واصفاً لنا الأسرة من حيث علاقاتها، و مستواها الاجتماعي و الاقتصادي، راسماً صورةً دقيقة عن عكا الجميلة و علاقتها بالبحر و التاريخ، كما أن رام الله في طفولته و " مدرسة الفرندز" تحديداً قد استحوذت على صفحات مهمة في مذكراته مدّعماً طفولته بالصور مؤكداً أن فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي، خصوصاً في المدن، لم تكن جغرافيا خاوية مقفرة، وإنما كانت مفعمة بالحياة و الانفتاح على المدنيّة الحديثة ، اجتماعيا و اقتصاديا و تعليميا. و عندما تناول حياته الجامعية في لبنان، رسم لنا خريطة سياسية اجتماعية ثقافية لهذا البلد العربي، لا سيما وأنه كان على اتصال بالسياسة، من خلال عضويته بالحزب القومي الاجتماعي السوري.
هناك سياسيون و قادة يكلفون كتابا بكتابة سيرهم الذاتية، بعد أن يملون عليهم الوقائع و المعطيات، لكنني أعتبر أن اصدق أنواع السيّر تلك التي يخطها الانسان بقلمه ، فالكلمة الخارجة من الذاكرة الى قلم الكاتب نفسه ، هي الاصدق و الأكثر تعبيراً، بمنأى عن تنميقات و دبلجات الكتّاب الذين يسعون لاسترضاء من يكلفونهم، عن طريق اللغة و التشويق و ربما المبالغة، فتأتي السيّرة مصنعة صناعةً، ما يضع حاجزاً بين الكتاب و القارئ، لأن ما يهم الناس، هو أن يتحدث صاحب السيرة عن نفسة بلغته و صوته، وكأنهم يشّمون رائحة عرقه من الحروف، أو ينتشون من الفرح و هم يتفاعلون مع المواقف المفرحة.
إن السيّر الذاتية محطات للقراءة و الاستمتاع و التأمل و الاستخلاص و التعلم و الحصول على المعلومات الدقيقة، لتندرج هذه السيّر في تجارب القرّاء و المتابعين المعرفية التي يشكلونها بالقراءة و الاستماع و المشاهدة في حال تحويل السيّر الى أعمال درامية كالتي تناولت السيّر الذاتية للدكتور طه حسين و أم كلثوم، و غير ذلك من أعمال بعضها حلّق في عالم الابداع، و بعضها أخفق في تحويل السيرة الى أعمال تستحق المشاهدة و المتابعة.