نشر بتاريخ: 22/08/2017 ( آخر تحديث: 22/08/2017 الساعة: 15:56 )
الكاتب: أ.صخر سالم المحاريق
إن ما تقوم به وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطيني من جهود مضنية في سبيل تطوير منظومة التعليم, والخروج بها من بوتقة التلقين، وأسلوب النمط التقليدي في العرض، إن هي إلا خطوة في الاتجاه الصحيح من أجل الوصول إلى مخرجات أفضل، والتغلب على الصعوبات الجمة التي يعاني منها سوق العمل الفلسطيني في ظل الظروف الراهنة, من أجل تحقيق تنمية وتطوير معاصر في قطاع التعليم عموماً، والتعليم المهني والتقني على وجه الخصوص.
فقطاع التعليم هو "حجر الأساس" والخطوة الأولى للبناء، نحو الاستقلالية والتنمية في كافة مجالاتها الاقتصادية، والاجتماعية، والادارية, ولإثبات ذلك إليك عزيزي القارئ هذه البراهين والتي تثبت صحة هذه التوجهات؛ يوجد هنالك العديد من الدول المعاصرة والمتطورة والتي استندت في نموها وتطورها - للخروج من بوتقة الرجعية والتخلف - إلى التعليم كأساس وطوق نجاة، لعلاج العديد من المشكلات والتحديات في شتى مجالات وقطاعات التنمية, ولعل تركيا وماليزيا اليوم نموذجان مثاليان لنا كعرب ومسلمين, وكذلك ألمانيا التي خرجت من تحت ركام ورماد الحرب العالمية الثانية، لا تندب حظها، ولا تلطم خدها، بل تنفض غبار المعارك عن بقايا الكتب كسبيلٍ لنهضتها، مما جعلها تلقب "بالمعجزة الاقتصادية" التي استطاعت بناءها في عشرين عاماً فقط بفضل التعليم, ولعل أصداء قنبلة هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين شاهداً آخراً على أهمية التعليم في فرض سيادة أي دولة ونفوذها ورقي حضارتها.
كما أن منظومة التعليم المهني والتقني كان لها نصيب الأسد في تطور هذه الدول ورفعة اقتصادياتها؛ فبحسب الاحصائيات العالمية تقدر نسبة المشاريع الصغيرة من مجمل مشروعات الاقتصاد ما بين (70-80)% من تلك المشاريع في مختلف قطاعات الإنتاج , ويعود الفضل في انشائها إلى دعم تلك البلاد لمنظومة التعليم المهني والتقني، وكذلك ثقافة "العمل الحر" المنظم والمدعوم، والتي تخلق بدورها هكذا مشاريع تبنى اقتصاداً حيوياً وفعالاً على المستويين المحلي والدولي, تحد بدورها من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة كالفقر والبطالة, والتي تعاني منها جميع منظومات الدول والاقتصاد العالمي بشكلٍ عام خصوصاً دول العالم الثالث والدول النامية، الأمر الذي دفع بمنظمة الأمم المتحدة أن تضع في نصب أعينها مساعدة تلك الدول وتطويرها عبر مشاريعها وبرامجها التنموية المختلفة في بناء القدرات الموجهة نحو التمكين الاقتصادي والاجتماعي، لمعالجة ظاهرتي البطالة والفقر المتلازمتين، والتي تعتبر فيهما الثانية نتيجة حتمية للأولى, فكان التعليم والتدريب المهني جزء لا يتجزأ من تلك البرامج والمشاريع الهادفة.
ولو رجعنا للوراء قليلاً للتأكيد على أهمية ما نتحدث عنه حول تعلم المهن وعلاقتها التاريخية والاجتماعية بأصحابها وبطبيعة أعمالهم ومشاريعهم الخاصة على اختلاف أحجامها وأنواعها, لوجدنا أن مسميات العديد من تلك المهن ارتبطت بأسماء وألقاب أصحابها وعوائلهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر في بلادنا العربية عامة، وفي فلسطين خاصة؛ يوجد عائلات بمسمى النجار والحداد والصيرفي والحلاق, وعربياً الخياط والصايغ والحجار والنحاس والساعاتي ... إلخ, وهذا الأمر ليس مقتصراً على البلاد العربية دون غيرها، بل في البلاد الغربية أيضاً, فمثلاً: في ألمانيا يعتبر اسم "مولر" والذي يعني "الطحان" الاسم الأكثر شيوعاً وقدماً فيها وتعود سبب شهرته بأن "الطحان والخباز" مهنة واحدة ينتج عنهما الخبز الذي يحتاجه كل بيتٍ بشكلٍ يومي, وكذلك اسم "شنايدر" الذي يعني "الخياط" واسم "شميدت" ويعني "الحداد"، وغيرها العديد من الأسماء المرتبطة بصنعةِ أو حرفةِ صاحبها, تعبيراً عن أهمية تلك المهن ودورها في حياة الناس.
ولعل أفضل السبل لإحياء تلك المسميات وأهميتها المهنية، كسبيل للتوعية والترويج نحو ثقافة التعليم والعمل المهني، وثقافة "العمل الحر" الموجه نحو المشاريع الخاصة، سيكون له بالغ الأثر في التخفيف من حدة البطالة والفقر، التي نعاني منها في مجتمعاتنا العربية، ومجتمعنا الفلسطيني على وجه الخصوص, فبيئتنا الفلسطينية في أمس الحاجة لمثل هذا النوع من التعليم وثقافته, والسبب يرجع لأهمية التعليم والتدريب المهني، في تعزيز قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة, والقضاء على حالة التردي في اتقان تلك المهن واسقاطها المثالي على أرض الواقع, فمثلاً: يتعلمُ أحدهم النجارة من آخر، دون أسس علمية ومهنية صحيحة، مبنية على أسس تشجع الابداع، والابتكار، والتطوير المستمر في تلك المهن، من أجل التجديد والاستمرارية في المستقبل, فتراه نتيجة لضعف تلك الأسس ومعايير الإتقان السليمة، يستنسخ كافة الأخطاء، والمشاكل، والهفوات المهنية، والتطبيقية، والفنية، ويقوم بتكرارها مرة أخرى، وبالتالي تتصف مخرجاته النهائية بضعف الجودة، مما نتج عنه تراجع أهمية التوجه لتلك المهن، وانقراض العديد منها, فعلى سبيل المثال: كانت مدينة الخليل تشتهر بصناعة الزجاج والأحذية, وكانت مصانعها تعد بالمئات، أما اليوم فتراجعت بشكلٍ كبيرٍ وملحوظ، لتعد على أصابع اليد الواحدة, والسبب غياب الاهتمام بالمنتوجات الوطنية، والتوجه للمنتوجات المستوردة، وغياب ثقافة التطوير، والتغيير والتجديد، لمواكبة متطلبات العصر, الأمر الذي يستطيع فيه التعليم المهني، والحرفي الممنهج، معالجته وفق أسسٍ علميةٍ صحيحةٍ ومدروسة.
وخلاصة الأمر فالتعليم المهني والتقني الموازي للتعليم الجامعي والأكاديمي؛ هو الثقافة الأهم، والطريق الأسلم، في مواجهة ظواهر كالبطالة والفقر والتهميش المتزايدة، من خلال تخطيطٍ مدروسٍ، وبرامج متطورةٍ تحقق هذا كله, وتعزز من ثقافة "العمل الحر والريادي" في مشاريعٍ خاصة، لتحقيق مردودٍ مادي غير محدد، يحقق الذات، ويحارب الحاجة، ويجلب معه كل ما هو جديد في سوق العمل، ويعمل على ادخال التقنيات العالمية الحديثة، ويقوم بتطويرٍ مستمرٍ لجميع القطاعات الاقتصادية، والاجتماعية، من أجل بناء مؤسساتنا ومنشآتنا الاقتصادية والوطنية، وفق أسسٍ مهنيةٍ وعلميةٍ سلمية, الأمر الذي أثبته العديد من تجارب الدول الاقتصادية، التي انتهجت هذا الطريق, سيما وأنه وحسب دراسات علمية وتربوية وطنية، أثبتت بالدليل الجازم أن هنالك نسبة عالية من شبابنا يتمتعون بمهاراتٍ واهتماماتٍ تطبيقية، يمكننا استغلالها والبناء عليها وتوجيهها نحو مدارس وكليات مهنية ترعى منظومة التعليم والتدريب المهني والتقني الريادي والمتقدم والمخطط له وفق أسس علمية وتطبيقية مدروسة، فالكل يعلم علم اليقين الدور الذي قام به "الشباب الفلسطيني" والذي ساهم في بناء العديد من الدول المجاورة، وساعد في نهضتها سواءً في الخليج، أو في منطقة الشرق الأوسط، أو المغرب العربي.
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
• محاضر جامعي في التنمية المستدامة وريادة الأعمال, كلية المهن التطبيقية- جامعة بوليتكنك فلسطين.