الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

كلهم.. أطفالي..!

نشر بتاريخ: 22/08/2017 ( آخر تحديث: 22/08/2017 الساعة: 17:09 )

الكاتب: سمر الدريملي

سؤال؟!
ما الذي تخشاه البشرية عندما تسحق صواريخُها رضيعاً؛ إن زاد الحليب في معدته أفاضه من فمه على لباسِهِ ورقبتِهِ دون أن يُبالي؛ حتى يصلَ بانسيابٍ لأذنيه؟!
ما الذي يُخيفُ البشرية؛ عندما تنصهرُ رصاصتان في مقلتيه؟! وتُقشّرُ قذيفةٌ حارقةٌ جلد وجنتيه؟! وعندما تختلط أمعاءُ بطنهِ مع وقودٍ مؤكسد يمزج حليبَه مع دمه النازف؟!
وماذا يستفيد العالم –الأحمق- عندما تُمزّق قطعُ حديدٍ مدبّبةٍ ومسمّمّةٍ أوردة وجهه الصغير؛ فتنفجر دماً ينهمر من أعلى رأسه وصولاً لكسرة خبزٍ يقبض عليها في يده؛ من فم أمه المصابة؟!
أن تحب -أو تحبين- الأطفال.. فهذا أمرٌ طبيعيٌ، لكن؛ صدقاً؛ الأمر غير الطبيعيّ هو مدى التغيّر في مستوى وطبيعة هذا الحبّ؛ عندما تصبح الأنثى أمّاً.. فأيّ حزنٍ يعتري أيّ طفلٍ في العالم يَضْحى يُؤرّقك وينهش أعصابك.. وعلى النقيض؛ فإنّ أيّ مبسمٍ لطفلٍ رقيقٍ يسحب منك شوائب اليوم؛ ويفكك شرايين تعقّدت في بدنك منذ حين.
جرّب/ي أن تجلس مع أطفالٍ وتتحدّث معهم في السياسة.. أُقسمُ بأنّ الجلسة كفيلةٌ بأن تعيدك حيث فِطْرتِك الأولى.. وتأخذك للتفاصيل البنفسجية البسيطة في قصّة ابنيّ آدم "قابيل" و"هابيل".
ذات مرةٍ؛ سألتني ابنتي (التي لا تتجاوز الثماني سنوات): "ماما.. في أيّ ساعةٍ بدأ العالم؟ وأيّ يومٍ؟ ومين أول واحد انخلق في الأرض؟"..
وبينما كنت أُحدّق فيها، وألملمُ إجاباتٍ في رأسي.. سارعت لتسأل: "طب الجنة وين.. في السما ولّا في الأرض؟"..
لتبدأ شقيقتُها الأكبر بسؤالٍ أكبر: "ماما.. مين ستّ ستّ ستّ ستّ ستّ... ستّي؟".. وبدّي يا ماما أسال كمان سؤال؛ بس مش عارفة.. حرام ولّا مش حرام.. أسأل؟
لأعاجلها بالردّ: "لا يا ماما, ما تسأليني، بسّ أدبّر لكم إجابات على أسئلتكم الأولى بنكمّل".
كلما اقتربتُ من الأطفال؛ كلّما ابتعدت خلجاتُ نفسي عن حذلقة الكبار، وتيقّنت بأنّ أضعف مخلوقٍ على البسيطة هو الإنسان، يدخل بيته لأول مرةٍ محمولاً بشكلٍ أفقيٍ في أحضان أمه، ويخرج من بيته لآخر مرة محمولاً أيضاً بشكلٍ أفقيٍ لكن؛ في أحضان كفنه.
وكثيراً ما تعود الأشياء في النهايات إلى هيأتها الأولى، فعندما نجلس مع طاعنين في السنّ تنسحب منهم الذاكرةُ لسنيّ عمرهم الأولى، فتارةً يترنّحون؛ بالارتداد لمشاكلهم مع زملاء المدرسة، وتارةً يتساءلون؛ عن مصائر دمىً وألعابٍ مفضلةٍ كانت تغفو في أحضانهم.
حتى عظامُهم؛ تكون قد عادت للتقوّس للداخل، بينما يبدأ الهِرمُ على كلّ ما هو حيويٌ داخل أجسامهم؛ بدءً من الاختزان، فالابتكار، فالتفاعل.. وصولاً -في بعض الأحيان- إلى العجز عن قضاء الحاجة؛ إلا كما الأطفال.
الإنسانُ هو الأقوى أيضاً على الخير والشرّ.. فانكبابُهُ على تصنيع ما يفتكُ بجنسه؛ يجعل منه "المتناقض الأعظم" فبيده يصنعُ ما هو كفيلٌ بأن يقضيَ على إنسانٍ لو مرّ بالقرب من دفقة هواءٍ ساخنةٍ سامّةٍ، وهو ذاته؛ من يهرب بالحياة في عرض البحر؛ في سبيل طوق نجاة..!
فمن منّا لم تؤرّقه فطرتُهُ السليمة على الطفل السوريّ "إيلان شنو" الذي قضى في عرض البحر وأمُهُ وشقيقُهُ هرباً من الموت الممنهج في وطنه، موجُ البحر كان يلاطف وجهه المنكبّ على الرمل، وكأنّما يمسحُ على رأسه؛ بدلاً من يدِ أُمّه "ريحانة" التي حاولت ابتلاع كلّ ماء البحر؛ ليبقى طفلاها.. بينما تمنّى أبوه أن ينقلَ لهما أنفاسه.. لكن؛ دون جدوى..
أندهشُ من شدّة احتمال وجَلَدِ الأمهات؛ اللواتي يفقدن طفلاً من روحهنّ ودمهنّ، كُن في الأمس القريب يحملنه، ليقسنّ -شهراً تلو آخر- حجم رأسه وطولَه وميزانَه بالسنتيمتر، واليوم يجرفون رأسه، مع طوله، مع ميزانه.. ويئدونه مع سريره الدافئ تحت التراب.
أتساءل.. عن مشاعر آباءٍ تحتّم عليهم الأسرُ، وبدأت رؤوسهم تشتعل شيباً؛ بينما بدأت تنمو أنياب أطفالهم وتتبدّل أسنانُهم، ويبتلع سعادة هذه التفاصيل جوفُ ثعبانٍ آسر.
إنّ القسوة على العالم العربيّ -خصوصاً الطفل العربيّ- تزداد مع مرور الوقت، وكأنه كُتب عليه أن يكون المستهلك الأول لمنتوجات المفاعلات النووية والانشطارات الذريّة، فبينما الطفل في العالم الغربيّ ملهوفٌ بما هو جديدٌ وساحرٌ من عالم "والت ديزني".. لازال الطفل العربيّ يبحث عن القدم المبتورة لدميته المحترقة..!