نشر بتاريخ: 05/09/2017 ( آخر تحديث: 05/09/2017 الساعة: 17:41 )
الكاتب: تحسين يقين
من مهرجان المسرح العربي بوهران الى مهرجان التجريبي في القاهرة
"خريف" المسرحية المغربية الفائزة بجائزة الشيخ القاسمي:
خريف امرأة السرطان وسؤال الوفاء
تجميع كل ماله صلة بها من أشياء وملابس وترك اثره!
بسرعة، تلملم المريضة متعلقاتها ملقية بها في الخزانة، كأنها تعتزل المكان ذي الطاقة السلبية، ثم تحمل في يدها جاكيتة الزوج غير الوفي، لترميه بدون أدنى تردد، ترميه على الطاولة الصغيرة، ودون ندم تلقيه كأنه نفايات، لتسحب مع أشيائها غير آبهة به. هي بلاغة تمثيلية معبرة ودالة. لقد كانت الضربة القاضية له ولمتعلقاته، للتحرر منه، ومن الحاجة إليه ومن حبها له، كأنها أيضا تعاقب نفسها بسبب ما وطنت حالها على الاعتماد عليه. لقد كان تخلصها منه خلاصها باتجاه اعتمادها على الذات خصوصا في رحلته الأكثر صعوبة والأخيرة. لقد نجحت بالخلاص حتى ولو كان ذلك متأخرا، فكان سلاحها الماضي في مواجهة الموت والانتصار للحياة مهما كانت دقائقها محدودة.
هو المشهد الأخير الذي يعيدنا لإعادة تذكر العرض من بدايته، فاتحا الذهن على المزيد من التأمل!
تروي مسرحية "خريف"، للمخرجة المغربية أسماء الهواري، قصة امرأة تعاني من مرض السرطان، حيث تتألم جسديا ومعنويا؛ فوجع الجسد يزيد عذاب صاحبته عذابها النفسي العميق حين شعرت بفقدان سند زوجها الذي يمر بتحول سلبي بعد ظهور المرض. وهي من نص المؤلفة الإعلامية فاطمة الهواري شقيقة المخرجة التي أصيبت بالمرض ورحلت جراءه.
هي إذن مونولوج إنساني نسوي عميق موجع، عبرت عنه المخرجة من خلال الحركات المتوترة لممثلتين ترويان سيرتة واحدة، سيرة الإنسانة المريضة والمعذبة. كل وأسلوب روايتها، تلك الرواية المنسجمة، حيث تتحدث الأولى أو تقرأ، في حين تعبّر الأخرى حركيا عما تذكره الأولى من خلال عمق الدراما الحركية الراقصة، حيث نجد أنفسنا إزاء مسرحية تكون البطولة فيها للرقص الإبداعي.
ولعل الرقص الدرامي الإبداعي هنا يحتاج لمقال من متخصص، ولكن لنا أن نشير إلى الأثر النفسي لدينا ونحن نشاهد تلك التعبيرات الراقصة، والتي تعمق المعنى أكثر بكثير من السرد مهما كان مؤثرا، حيث تظل للحركة الدور العميق في التعبير عن المشاعر، خصوصا مشاعر الفقد والألم والوحدة والإحباط، ثم عودة الروح لها، من خلال الاعتماد على النفس والاتكاء على نفسها. ويتفق ذلك مع روح الشعور هنا، حيث أصلا يصعب الكلام، أو يصبح هناك حيرة في التعبير عنه، وبالتالي يكون اختيار المخرجة للرقص التعبيري هنا قد جاء عن وعي، وما يدلل على تحليل الشكل هنا هو أن السرد الكلامي كان محدودا.
إنها رواية واحدة، لإنسانة واحدة، ولكن إبداع الإخراج هنا هو في المزج بين السرد والحركة، كأن الرقص هنا هو تجل عميق للنص، أو سيناريو حركي عميق له.
يمكن تأمل مشاعر الصراع، والتعبير عن حاجتها واشتياقها له، وتقطيع الفستان بما يوحي لمساحات الألم التي تصاحب انتشار خلايا المرض، ودورانها مستلقية على الطاولة الصغيرة، في إيحاء إلى التمركز على الرجل، ورمي جاكيتة الزوج بما ذكرنا في البدء من دلالات، حركة الامساك بالرأس بما تعبر عن تفجع ووجع، للإحساس بفضاء الحركات وطاقتها في التأثير بل وتعميق هذا التأثير سحريا على المشاهدين/ات، من خلال إدخال 4 راميات، او متضامنات او مخذولات، يثأرن من جحود الأزواج. وكان لاستخدام الشهيق والزفير أثر في تفريغ الطاقة من جهة، والتحرر من جهة أخرى بما يلائم الموت والقيامة.
وغق العرض في اختيار الموسيقى الحية المصاحبة للعرض، بما تحمله من مصداقية أكثر ودقة أيضا، بدلا من الاعتماد على التسجيل.
أما الديكور، فقد كان للخزانة وظيفة معنوية، كأنها الجسد، أو مستودع الأسرار، في حين أوحت عبرت الطاولة الصغيرة ذات الشكل الدائري وذات العمود الصغير بالشعور الإيروسي خصوصا في تمركزها عليه وهي تدور مستقلية عليه كما أسلفنا، وكمكان لرمي جاكيتة الزوج-الرجل عليه.
وقد شكّل اختيارها الملابس الحمراء الحارة معنى، على خلفية سوداء، سيناريو بصريا واكب العرض، ومنحه وحدة شعورية.
المرض عضوي ورمزي
لعل المعنى القريب والواقعي هنا حول المرأة المصابة بالمرض والخذلان يقودنا إلى التفكير بالوفاء بشكل عام كقيمة، وأن نبحر بعيدا في اعتلال المقومات كالجسد هنا والمال والمركز، حيث تظهر التحولات الإنسانية مع ما يتغير من مواد، لتكشف عن معدن الإنسان الحقيقي، فتغير نظرة الرجل-الزوج تجاه زوجته المريضة، هو رمز لتغير نظرة المجتمع تجاه تغير الحال.
ولعلنا نختتم مقالتنا هذه بما ذكرته لجنة لجنة التحكيم، عن تميز نص مسرحية "خريف" لاكتنازه بفحوى إنسانية ولغة إبداعية تراعي العالمية، فوفقا للجنة فإن العرض مجدّ الحياة بتحدي الموت والألم الذي مزّق جسد المرأة وتمسك بالأمل والحياة، من خلال توظيف العرض مشهديات سردية تقاطعت فيها الحركة والإيماءة والسيميائية واللغة والسينوغرافيا والموسيقى والأداء ما شكل نسيجا تعبيريا مترابطا متكاملا".
من وهران الى القاهرة، من مهرجان المسرح العربي التاسع في الجزائر الى مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، كان الجمهور على موعد مع الفن المسرحي الراقي شكلا ومضمونا.
[email protected]