الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ضيعة ضايعة

نشر بتاريخ: 17/10/2017 ( آخر تحديث: 17/10/2017 الساعة: 20:24 )

الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام

في أحيان كثيرة، أشعر أن أهل فلسطين يعيشون على طريقة مسلسل (ضيعة ضايعة). وذلك للتشبيه بالعمل الدرامي السوري الذي يحمل هذا الاسم. ويعتبر مسلسل ضيعة ضايعة من تأليف د.ممدوح حمادة ، وهو من أكثر الاعمال الكوميدية ذكاء لانه يتميز بالاسقاطات الذكية على واقعنا العربي، سياسيا واقتصاديا وسلوكيا وسيكولوجيا وامنيا. هذه الضيعة تسمى ام الطنافس الفوقا.
الشخصيات ذاتها، والجمهور نفسه، والمسؤولون لا يتغيرون، وان أرادوا هم ترك مناصبهم تغضب الضيعة وتقاتل من اجل بقاء هؤلاء المسؤولين خشية ان يأتي مسؤول جديد لا يعرفون طباعه، عملا بالمثل القائل (يلي بتعرفوا احسن من يلي ما بتعرفوا).
الممثلون الذين يتحدثون بلهجة أهالي اللاذقية، نجحوا في التعبير عن حالة المواطن العربي من المحيط الى الخليج، مواطن بسيط وعامل يعمل ليل نهار بكل قوته ولا يريد سوى بساطة الحياة والنجاة من كوارث السياسة . وهو لا يريد ان يتحدى الحكومات أبدا، ولكن الحكومات لا شغل لها الا ان تتدخل في حياته.
ابو نادر قائد مخفر الشرطة، انسان بسيط وامكانياته العقلية والمادية محدودة، يحب الناس لكنه يخاف من المسؤولين أكثر ، وأبو نادر يخشى ان يطردوه من منصبه اذا لا يكون فظا وخشنا . امّا مساعده ( حسّان) فهو شرطي سادي ، يهوى ضرب الناس ومد رجليهم "فلقة" بسبب ومن دون سبب . لانه فاشل في المدرسة وكان من الأنسب ان يذهب الى عالم الاجرام، لكن القدر رماه في سلك الشرطة.
اما المختار فهو أبسط من قائد الشرطة، ولكن الله لم يعطه اولاد صبيان، واعطاه بدلا عنهم صبية جميلة وقعت في حب مثقف فاشل لا يعمل ولا فائدة منه سوى الادّعاء والمشاعر الجياشة المفرغة من كل قيمة. وهدف المختار الوحيد هو الحفاظ على مكانة اجتماعية تعوّضه عدم وجود اولاد.
سائق التراكتور لا تعجبه حياته، لذلك تطوّع من نفسه للدسّ على أهل القرية لينال رضى قائد المخفر، وهو يعتبر أن خيانته لأهل قريته وكشف أسرارهم فرصة ذهبية ليتطور في الحزب ويأخذ أي منصب وأية قيمة تميّزه عن الاخرين.
والأهم في هذا المسلسل دور المرأة المركزي، وهو دور أساسي من دون تكليف، فهي صاحبة رأي ومشورة غالبا ما تكون على حق، ولكن رجال القرية المقموعين والاذلاء أمام المختار وقائد الشرطة والعسس، هؤلاء الجبناء البسطاء لا يجدون اي حرج في الاستقواء على النساء من اجل التعويض السيكولوجي.
شخصيتان مركزيتان يقوم عليهما العمل الكوميدي (أسعد وجودة) وهما نخبة الجماهير. ويقوم بدورهما الممثلان باسم ياخور ونضال سيرجي. وهما جاران متفقان ومتناقضان. متفقان في الهم والحياة البسيطة والطموح والرضى ووحدة الحال، ومختلفان في تكوين الشخصية. واحد منهما بسيط ويرضى بأي شئ ومستسلم لكل شيء، وواحد غيور ولا يقبل أي شيء ودائم الشكوى والعناد، ما يسبب له تعاسة في كل حلقة. والغريب ان زوجتيهما متشابهتان في الامكانيات والرضى، والاخلاص والطيبة. ما يعطي التناقض رونقا شديدا ومعقدا أكثر.
الذي يتحكم بمصير القرية مسؤول من خارج الضيعة، وهو رجل امن لا يلبس اللباس الرسمي. والذي يتحكم برجل الامن مسؤول يجلس في مكتب كبير ولا يظهر وجهه في اشارة الى القوى الخفية التي تتحكم بالاحداث.
في احدى الحلقات صدر قرار من الرجل المجهول الذي يجلس في مكتب كبير، ومنع التملق ودعا الى الديموقراطية، ولكن أهل الضيعة رفضوا التعبير عن رأيهم بحرية . واعتبروا ذلك تحريضا على حياتهم البسيطة، وحين وضعهم قائد الشرطة بين خيارين ( السجن او التعبير عن الرأي ) اختاروا السجن، لان الحكومات لا يؤتمن جانبها، ورأي المواطن سر لذيذ ممنوع ان تعرفه الحكومات.
في حلقة اخرى جاءت الشرطة وطلبت منهم ان يبتسموا، ولكنهم رفضوا وقالوا ان البؤس والقهر موروث غالٍ اخذوه عن اّبائهم واجدادهم وأنهم لن يفرطوا به بهذه السهولة. اما حلقة الانتخابات الديموقراطية، وكيف تحالف المرشحان المتنافسان (المختار ابن الحزب من جهة ، وقائد الشرطة من جهة اخرى)، ضد الشعب فهذه حلقة تلخّص كل الديموقراطية العربية.
في ضيعة ضايعة، المواطن يعرف ماذا يريد. ولكن الحكومات لا تعرف ماذا تريد.