نشر بتاريخ: 29/10/2017 ( آخر تحديث: 29/10/2017 الساعة: 11:49 )
الكاتب: المتوكل طه
تمرّ من تحت أقواس البيوت القديمة ، وتمشي على درب الآلام ، وتعرّج على فرن السمسم والجمر الريّان ، وتصلّي على مصاطب النّارنج ، وتسير حيث الأنبياء والأولياء ، وترفع عينيك لترى ورود الشرفات الذي يتدلّى مثل القناديل .. فترى غيلاناً صغيرة ، تقدح بعيونها الناريّة ..
وتفجعك الأشياء .
***
انفزع الناس ، وتراكضوا ، وتركوا أبواب دكاكينهم مُشرعة ، وأغلقوا بيوتهم بإحكام ، وشخصوا إلى السماء لتحفظهم .. لقد نزلت الأُسُود المحفورة على جدران باب الأسباط ، وراحت تتبختر بحريّة في الأزقّة .. ولم يسمعوا زئيرها ، بعد !
***
الشاشة المقيتة ، المُترنّحة على وَقْع خطوات الحَرَس والحسناوات ، تحلم أن تصبح أكثر إبهاراً ، فوضعت المساحيق الجاهلة التي جمعتها من جثثٍ متغضّنة ، ومن أحمر شفاهٍ أخذته من إصبع طفل مقطوعة .. ومرّرته على فمها ، فصار يدعو ، أكثر ، للاشمئزاز .
ومؤخّراً ، أهداها أحدُهم منديلاً لتزيل راقات الوَهْم السائل عن وجهها ، لكّنها مزّقته ، وألقته بلا مبالاة تحت الأقدام .
لم يتفاجأ ، لكنّه كان يختبر العَدَم.
***
لستُ آخر المقاتلين ، ولستُ أوّل مَنْ يؤيّد القَتلةَ في سلامِهم ، لأنه جنائزي واستيطاني، يقطع رأس المُدن ، ويأخذ منّي الأرض والأغنيات والثوب الربيعيّ ، ويطرد الحصانَ من الحكاية ، ويجعل يافا ، التي هي كل شيء بالنسبة لأُمّي ، ليست لنا !
***
دفعوه إلى الصحراء ، بدعوى زراعة المساكب ، وإطلاق البتلات ، فاجتمع النّحل على ذراعه ، وأثّث قفيره .. واستراح .
فأعادوه إلى الخلايا .. وعاد العسل يتدفّق ثانيةً ، من بين أصابعه ..
إنّها الزّهرة التي لا تموت ، وتلك يد الشاعر.
***
كان بمقدور التلميذ أن يمشي على الماء الصّلب .. لكنّ إيمانه كان رخواً .. إلى حدّ الكفر والغرق .
***
كلّما مزّقوا الوردة وخلعوا أوراقها .. يجمح الطوفان ويثور البركان ويجفل المحيط . وعندما يُمْعِنون في تعريتها .. تزدهر النارُ في الأبدان ، وتلتفّ السنابل على هلال المنجل ، وتحمل الأرضُ بالجدائل الشقراء . وحينما يصل النّصل إلى الرّحيق ، يكون الجَنين قد اكتمل ، وأضاء الكون من جديد .
***
القلعة ، الطرقات ، الأحداث ، القادة ، السفائن ، النشيد ، العلاقات .. كُلّها جاهزة ، تمّ تنميطها وهندستها ، مثلما تمّ الاعتقاد بمكوّناتها وحدودها ، وصِدْق روايتها ..
ولم يتجرّأ أحدٌ على الإتيان بكلمة تخدش النائم وتهزّ أحلامه الكاذبة ، أو تُطلق الأسئلة الصاهلة اللانهائية .. في البراري .
***
الصوت الذي يسعى ، وراء الميكرفون ، لأنْ يكون شغوفاً .. انزلق عن الحرف ، وانحدر في هاوية العبث !
لم يُومِض ، ولم يُوقظ القطّ النائم في الأحضان ، ولم تسعفه بعض الجُمل الناتئة ، مثل سكين الجزّار العمياء والبليدة والمخيفة .. لكنّه ، أيّ الصوت ، وتحت بقعة الضوء ، كان يشير إلى عتمةِ ظاهرةٍ طائشة ، لم تقرأ من الآخرين سوى ما سمعته من فَم شاعرٍ صغيرٍ مخمور ، أقنعها أنها كاتبة ! حتى تذهب معه إلى التشاوف واللهاث السريع .
***
عضو اللجنة السادر في الميوعة أو الجعجعة أو الهدوء المشبوه .. واحد ! يتعدّد بالمركبات والحسابات والقصور ، ويحرص على وجبات الشيطان ، ويدعو شعبه إلى الصيام .
هو شبه رقم ، طاش من بين الصفوف ، ولم يحمل معه سوى رغبات أولاده الساذجين السعداء ! ويجهش، حين يهرف بالشكوى ، ليؤكد من حيث لا يَعي ، أنه ذيل أو مسخ ! ويؤمر المرآةَ أن تعترف بأناقته .. لكنها دائمة الغبش ، بسبب رذاذ كلماته الكريهة ، وفزع الزئبق من هول ما يكذب .
***
المُسَطّح الغامض الذي فزّ من نومه فصار يقظاً يحرس الغابة ، بحكْمةِ الشيوخ ، هو نفسه الذي لفّته الزوبعةُ ، وأخذته إلى كهف الساحر السّاديّ ، أو الكائن الخرافيّ ، مَنْ يرصف عبوات الدم على رفوف منزله المسروق ..
والمُسَطّح يحلم بمبذل الأسطورة أو بإطار الرموز ، الذين أكلتهم القيود أو مضغتهم المعارك الطاهرة .. ولم يفطن بأنه في حمأة الكابوس ، الذي سيتركه في الحاوية ، ويترك لنا الباقة في الأحلام .
***
كلّما نجحَ أحدُهم بالحياة ، قام المريضُ يزعق ، وهو يختنق بالحَسد ، ويشتم الإبداعَ الذي لم يعرفه يوماً ، بل يوغل في أعراض الكتابة .. وأرني أسحبُ ما قاله تشارلز سيميك على المشهد الذي يترجرجُ أمامي " حيث الجهلُ نعمةٌ، حيث يداهِنُ أحدُهم الليلَ على فراشِ الجهالة، حيث يركعُ أحدهم على ركبتيه يصلّي لملاكٍ رقيع .. حيث يلتحقُ أحدهم بأحمقَ إلى الحرب في جيش الضّلالات السعيدة .. حيث الدِّيَكةُ تصيحُ طوال اليوم .. " فأضحكُ حتى القهقهة ، وأمسح الغبشَ عن الهواء ، وأعود إلى مؤلّفات أصدقائي المُدهِشين ، ويناديني الحرفُ الباذخ .
***
قل لأهلكَ : لا تخرجوا من بيوتكم ، مهما عربدت السواطيرُ واستيقظ الخوف ودوّى في الأرجاء . لا تصدِّقوا أنّهم أقدرُ منكم ، بل أنتم الراسخون أصحاب التاريخ وأهل الحقّ ، وهم الشذّاذ الغرباء التائهون المغتصِبون ، ولو امتلكوا إبهار الأداة القاتلة ، واستحيوا أو اغتصبوا .. غِيلةً وخسّةً.
قلْ لهم : لا تهاجروا ، وعضّوا بأسنانكم وأعصابكم على كل جذع وحَجر وشاهدٍ وحيد وصبّار يابس، وظلّوا في فضاء البلدة حتى لا تنزلقوا إلى هوّة المقاصل الغاشمة .
إبقوا حيث أنتم ، على كل شبرٍ وفي كل طريق وبستان وساحل ، ولا يدفعنّكم موتٌ ظالمٌ لأنْ تهربوا منه إلى انتحار أشدّ ظُلماً وزمناً .
لا تخرجوا من حكاياتكم وكوانين شتائكم وسناسل أسواركم وحلقات آباركم وذَهب سنابلكم ونعناع حقولكم ودبكات أعراسكم ومناديل زفّاتكم وعرق حصادكم وأغاني بحركم ونشيج مآتمكم وشجون ناياتكم وحِبر دكاكينكم وأناشيد كتاتيبكم ورسوم صحرائكم وأطلال طرقاتكم وعناكب خِرَبِكُم وغزلان نبعكم ورقصات عمرانكم وتيجان نحْلكم وسلسبيل مياهكم وسُكَّر ملحِكم وبياض سوسنكم ولباء نوقكم ونداءات قُراكم ومواقد سهركم وأحلام فتيانكم ومرايا نسائكم وكحل بناتكم ونرجس جبالكم ..
قل لهم : لا تخرجوا حتى لا تنعب الغربان في دواوينكم ويزعق البُّوم في هزيعكم ، ويسكن الغزاة مهاجع أرحامكم .
قُل لهم : لا تخرجوا حتى لا تضيع أغانيكم ويجفّ بحركم وينشف ريحكم وتأسَن مياهكم وتملأ الكوابيسُ نهاركم الليلي الطويل .
قِفْ على بوابة البلدة واغلقها في وجوه مَنْ حملوا متاعهم، وركبوا خوف بغالهم، حتى لا يجعلوا صوت المئذنة في الفحم أو كأس الخمرة الحرام ، وحتى لا يتجرّأ الغزاةُ على ثياب الأنبياء ويتهشّم هدوء غفوتهم ، وحتى لا يظلّ الأيّل المكحّل عرضةً لسكين الشيطان المثلومة ، يلوك لحمه ، ويرى دمه المتساقط على التراب .
ظلّوا منزرعين مثل الخرّوبة وزيتونة الدار وليمونة الحاكورة ، واحرسوا مِزْقة الزّعتر ، ولا تضعوها إلّا في عجينكم القمحيّ الباذخ ، وذوّبوا تيجان التلال في عيونكم ، وأقيموا صلوات المواسم بكل فتوّة في السواعد والعرق والمعاول والمناجل . أرصفوا أولادكم تحت لحافٍ واحد، واجعلوا سراجكم العالي وضّاءً ، لا ينوس إلاّ على انفتاح الرخام للمطر . وتكاثروا مثل زنابق الغيث وقَرْن الغزال والسيسبان ، وافركوا لباليب الإكيل مكان الأشواك ، وتلمّظوا بشراب الصيف ، ليخرج الحامضُ من فم الحرارة ، وناموا على وسادة البدر ، واتركوا النجوم تلهثُ بين المَجرّات ، لتأتي لكم بأحزمة الشروق ، ثم تغفو حتى الغروب ، لتعود إلى لعبة السطوع .
***