الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

مئوية بلفور

نشر بتاريخ: 30/10/2017 ( آخر تحديث: 30/10/2017 الساعة: 10:23 )

الكاتب: د.ناجي صادق شراب

أيام قليله تفصلنا عن الذكرى المئوية لوعد بلفور، والذي يحمل إسم وزير خارجية بريطانيا اللورد جيمس بلفور والذي أصدر وعدا بإسم صاحبة الجلالة الملكية البريطانيه وبصفته وزيرا للخارجية البريطانية وليست بصفته الشخصية يمنح بموجبه اليهود وطنا قوميا لهم في فلسطين. بداية الوعد يعبر عن إرادة بريطانيا، ومن ثم ليس وعدا شخصيا وهذا معناه إرتباط الوعد بالسياسة البريطانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، صحيح ان الوعد صدر عام 1917 لكن لا يمكن فهم دوافعه إلا بوضعه في سياقه التاريخي والسياسي الذي صدر فيه.
فالمسألة لا تتعلق باليهود وهل لهم حق تاريخي في فلسطين، ولا تتعلق بدوافع إنسانية، وإنما الوعد يرتبط بالدوافع والمصالح العليا التي حكمت السياسة البريطانية. والأمر الآخر ان الوعد لم يقتصر على كونه بريطانيا فقط بل اخذ بعدا اوروبيا وأمريكيا اوسع وأشمل.
وقراءة الوعد لا ينبغي ان تقتصر على مجرد تحليله، والوقوف على دوافعه، وإن كانت أمرا مطلوبا، ولكن بقراءته بعد مائة عام، اي بالسياق السياسي الحاضر. وهل حقق الوعد اهدافه؟ وهل ما زالت هناك مراحل أخرى؟ الظروف التاريخية التي صدر في سياقها الوعد قد لا تختلف كثيرا عن الظروف والمحددات السياسية التي تحكم علاقة المنطقة العربية بالقوى الدولية والإقليمية الخارجية اليوم.
ويبدو لي ان الهدف الاوسع والبعيد المدى للوعد ليس فلسطين فقط، بل المنطقة العربية كلها، والهدف الإستراتيجي تفكيك المنطقة العربية وإعادة تقسيمها.
المرحلة الأولى هي مرحلة صدور الوعد في العام المذكور والذي تزامن مع إتفاقات سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو. 
والهدف تقسيم المنطقة على أساس الدولة الوطنية القطرية، والتي نشأت كثير من الدول العربية إستنادا لهذه ألإتفاقات. وتقسيم المنطقة ووضعها تحت سياسات الدول الإنتدابية بريطانيا وفرنسا وهما القوتان النافذتان وقتها، واليوم نتحدث عن دور امريكي وروسي مثلا. وتزامن صدور الوعد أيضا مع مرحلة التوسع ألإستعمارى وبروز الحركة الصهيونية، وظهور ما عرف تاريخيا بالمسألة اليهودية في اوروبا، وبروز تيارات فكرية تتراوح بين إندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها اي حل المسألة اليهودية اوروبيا، وبين التيارات التي تطالب العودة لفلسطين.
وهنا تلاقت الصهيونيه المسيحية التي تؤمن أن عودة المسيح مرتبطة بقيام وطن قومي لليهود.
بهذا التفسير إرتبط صدور الوعد بتحقيق المصالح الإستعماريه، وكآلية إستراتيجية للحيلولة دون وحدة المنظومة العربية، والتهيأة لتقسيم المنطقة وتفكيكها في مرحلة لاحقة. ومن العبر التي يمكن ان تقرأ من الوعد في مؤيته وضع فلسطين تحت سلطة الإنتداب البريطاني لتقوم بريطانيا بوضع البرامج التنفيذية لترجمة الوعد على أرض الواقع، علما ان اليهود لم يكونوا يمثلوا إلا أقليه صغيرة، ولم يملكوا اي من الأرض عند صدور الوعد. وهذان هما العنصران اللذان إعتمدت عليهما سياسة بريطانيا والحركة الصهيونية لجعل الوعد حقيقة سياسية تحتاج اولا: عنصر السكان وهنا قامت بريطانيا بتبني سياسات الباب المفتوح والسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين، وثانيا عنصر الأرض بتسهيل إمتلاك ألأراضي وبيعها. ونضيف لهذين العنصرين العنصر الدولي بمعنى الحصول على الشرعية الدولية لوعد بلفور وتبنيه من خلال الأمم المتحدة، في صورة إستصدار القرار رقم 181 الذي اجاز قيام دولة عربية على مساحة تقارب 44% من مساحة فسطين، والدولة اليهودية على مساحة تقارب 54%، والقدس تحت الإشراف الدولي، ومما يلفت الانتباه في هذا القرار ان نسبة الدولة اليهودية اكبر من الدولة العربية على الرغم من غلبة العنصر العربي الفلسطيني. 
ومن العبر المهمة في قراءة الوعد بعد مائة عام على نجاح الحركة الصهيونية إلى جانب العناصر الثلاثة السابقة في بناء المؤسسات السياسية، والتعليمية كالجامعة العبرية في القدس، وتأسيس المليشيات العسكرية، وهذه المؤسسات هي التي شكلت النواة لقيام إسرائيل كدولة. والتي من بين اهم اهدافها الحيلولة دون قيام منظومة عربية متكاملة متصلة جغرافيا، والتمهيد للدخول في المرحلة الثالثه لتاريخ التطور السياسي للمنطقة وهي التي نشهد بعض إرهاصاتها اليوم، بإكتمال الأهداف الإستراتيجية البعيدة المدى لوعد بلفور وهي مرحلة إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة على أسس جديده إثنية وعرقية، وطائفية، والعمل على تفكيك الدول العربية الكبرى إلى دوىلات وكينونات سياسية صغيرة يسهل إبتلاعها وإحتوائها. وإعادة بناء بنية القوة فيها على أساس أن تكون إسرائيل هي الدولة المحورية القيادية. 
في سياق هذه القراءة التاريخية السياسية تبدو اهمية وحتمية قيام الدولة الفلسطينية، والتي ستغير من شكل الصراع وتحول دون تنفيذ المرحلة الثالثة من تفكيك وتقسيم المنطقة العربية.
واخيرا الوعد تجسيد وترجمة لمفهوم القوة الذي يحكم العلاقات الدولية في كل مراحلها.