نشر بتاريخ: 07/11/2017 ( آخر تحديث: 07/11/2017 الساعة: 10:58 )
الكاتب: عيسى قراقع
الحوار الاخير بين اللورد بلفور وفرحان السعدي وحسن اللاوي ووليام والاسبعد مرور قرن على صدور وعد بلفور المأساوي، احتفلت بريطانيا وتفاخرت بإنشاء الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني ارضا وحقوقا ومستقبلا، وبعد مرور خمسين عاما على احتلال اسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة يحتفل نتنياهو والمستوطنون والمتطرفون بالاحتلال والاستيطان، فالمستعمرون يحتفلون بارتكاب الخطيئة والجريمة، الكارثة لا زالت مستمرة، وأصوات الضحايا الفلسطينيين والمنكوبين لازالت تصدح من اعماق التاريخ وتدوي في الحاضر الفلسطيني وفي كل اتجاهات الكون.
لا أعتقد ان الشيخ الشهيد فرحان السعدي يكتفي باعتذار بريطانيا لشعب فلسطين، حبل المشنقة يلف عنقه في شهر رمضان الفضيل في سجن عكا، الشيخ المعدوم كان صائما وقد أدى الصلاة، قرأ الفاتحة على روحه الصاعدة، ودع المعتقلين الذين هتفوا وأنشدوا ودقوا الابواب صارخين:
عبس الخطب فابتسم وطغى الهول فاقتحم
رابط الجأش والنهى ثابت القلب والقدم
سار في منهج العلا يطرق الخلد منزلا
لا يبالي مكبلا ناله ام مجدلا
فهو رهن بما عزم
وفي اللقاء الاخير بين الشيخ الثمانيني فرحان السعدي واللورد بلفور في سجن القلعة في عكا يوم 24/11/1937 قال له الشيخ الشهيد: جسدي يذوب وروحي في العلياء، ومن بعدي سترى جيلا يلعنك ويقتلك ويلاحق دولتك وجلاديك في كل زمان ومكان، اموت لأحيا، انا الحق، جسدي غيمة، صخرة، مدرسة، جسدي الف طفل جديد، وما عليك سوى ان تشد حبل مشنقتي، لا حوار معك فبعد ليل طويل يطل النهار.
لا اعتقد ان شهداء الثلاثاء الحمراء: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي يكتفون باعتذار بريطانيا ، ولا زال يوم الثلاثاء 17/6/1937 في سجن عكا يردد اصوات الشهداء وغضبهم وتحياتهم الى الثوار والمناضلين والمقاومين لوعد بلفور وللمشروع الصهيوني، يلوحون بأياديهم لأهاليهم وللناس الواقفين امام سجن عكا ينتظرون جثث ابنائهم المعدومين، وقد هدر البحر ولطمت امواجه ، وخرج الناس من شرايينهم في ذلك اليوم المنحوس حيث ترنحت بعرى الجبال رؤوس، ناح الآذان واعول الناقوس، ولا زال الهدير الآن مستمرا في النقب وعسقلان وهداريم ونفحة، السجون هي نفس السجون، الارادات تشهر الثورة في وجه من ورثوا القمع والظلم عن الاحتلال البريطاني لفلسطين.
الثائر الاسكتلندي الشهيد ويليام والاس يلتقي اللورد بلفور في تلك الساعات التاريخية حيث كان الجنود الانجليز يتلذذون بتعذيبه بأشد وسائل التعذيب ، وبعد ان قاموا بشنقه وانزاله من الحبل قبل ان يختنق ، وربط قدميه ويديه بأربعة احصنة يتحرك كل منها في اتجاه مختلف ، وبعد ان قاموا باخصائه وخوزقته، طلب منه بلفور الرحمة من ملك انكلترا ليعفو عنه، فما كان من وليام والاس الا أن صاح في وجهه بتلك الكلمة الخالدة : الحرية ...
في عام 1328 اعلن استقلال اسكتلندا والاعتراف بها كمملكة مستقلة، تحقق حلم ويليام والاس، القلب الشجاع الثائر في وجه الظلم الانكليزي ، ولعلّ اللورد بلفور الآن يصدق نبوءة والاس عندما قال له: كل رجل يموت، وليس كل رجل يعيش حقا، فالحرية تعيش وعمرها اطول من عمر الاحتلال والمستوطنين والمستعمرين.
رأس ويليام والاس الذي علقوه في ذلك الزمن على جسر لندن ، لا زال يتحرك، وروحه انتقلت الى آلاف الاسكتلنديين الذين يطالبون الآن بالانفصال عن انكلترا ، لم ينسوا دمهم وضحاياهم وما تعرضوا له من قتل ونهب واغتصاب وجرائم.
أطراف جسد ويليام والاس التي وزعت على كل المدن بعد شنقه ، تكاملت الآن في وعي الشعوب التي نهضت وتمردت وقاومت المحتلين والمغتصبين ، تقتحم احتفال بريطانيا بوعدها الكولونيالي، رائحة دم تنبعث من التاريخ تلطخ وجه الآثمين.
أشلاء وليام والاس تجمعت، نراه الآن في ساحات المسجد الاقصى، على ابوابها يتصدى لجنود الاحتلال والمستوطنين ، نراه في ساحة الميلاد يقرع اجراس كنائس العالم، ينزل عن مشنقته، وجها لوجه أمام بلفور المسلح باسطير الوعد في ثوبه الجديد.
الشهيد الشيخ حسن اللاوي ابن قرية كفر اللبد ، يعرف تماما ان بريطانيا نشرت الشرّ والظلم على مدى التاريخ، قاوم البريطانيين والصهاينة في باحة الاقصى بالقدس ، اعتقل وزج في سجن عكا عام 1939 ليمضي 42 عاما بالسجون، تركه البريطانيون بعد خروجهم من فلسطين عام 1948، ليبقى رهينة في السجون الاسرائيلية حتى عام 1983، مرّ عنه آلاف الاسرى، من اعدموا، ومن سقطوا تعذيبا ومرضا ، من اختفوا بين الجدران والقبور ، وبعد تحرره عاد الى زمنه الاول ، بدأت ذاكرته تنزف بالنداءات وبالدم حتى مات.
اللورد بلفور اغلق ابواب سجن عكا على الشيخ حسن اللاوي، تركه فريسة للعصابات الصهيوينة، كان السجن مليئا بالرؤوس المشنوقة، الجدران تطفح بالدم وبالرسائل التائهات، اللورد بلفور بعد ان اغلق الابواب سمع الشيخ حسن يقول:
ونحن روح فدى الاوطان نبذلها
عند الهجوم وفي راحتنا الشهبُ
الى السلاح الى موت الخلود الى
ما ينبيءُ السيف لا ما تنبيء الكتبُ
لا زال اللورد بلفور يحمل المفاتيح وحبال المشانق على ارض فلسطين ، السجون التي بناها تمتليء بالمعتقلين ، الجنود الذي سلحهم ودربهم ومنحهم ارض فلسطين لا زالوا يمارسون القتل والاعدامات والجرائم اليومية.
اللورد بلفور لم يستطع ان يشارك بالاحتفالات بعد مرور قرن على وعده المشؤوم، صوت وليام والاس وهتاف الحرية يهزّ كيانه، كابوس فرحان السعدي يلاحقه في حياته ومماته، وجه حسن اللاوي يطارده من زنزانة الى زنزانة، يحفظ اسماء القتلى والمفقودين واللاجئين ، يقرأ عليه وعلى حكومته لائحة اتهام طويلة .
عندما غادر بلفور وجيشه ارض فلسطين اصيب بحالة اكتئاب وقلق نفسي ولما سألوه عن اسباب تدهور حالته الصحية اجاب : خلال خروجنا سمعت نشيدا في مدارس فلسطين لا يدل على صوت مغلوبين او مهزومين ، فبرغم ما فعلناه بهم من قتل وتشريد وتسليم اراضيهم للعصابات الصهيونية فإنهم ينشدون نشيد دولة، نشيد منتصرين، سألوه أي نشيد هذا؟ ؟أجاب سمعتهم ينشدون:
موطني :الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك
والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك
هل اراك
سالما منعما وغانما مكرما
هل اراك في علاك
تبلغ السماك
موطني
لم يدرك بلفور الجلاد التاريخي للشعب الفلسطيني، ان ليل السجن هو اعادة ترتيب كل الدقائق والحقائق وإخضاع ما قد مضى لسؤال القادم، عندما تصحو الاحلام والارواح من رحلة الموت ، تسافر في الليل خلف الجدار وتحلم بالصبح والانتفاضات.
اللورد بلفور اصبح مطلوبا للعدالة الإنسانية ، ضجيج في الحياة وفي الآخرة ، الاسرى الذين زجهم في السجون يتوالدون وينهضون ويهتفون:
يا ظلام السجن خيم
اننا نهوى الظلاما
ليس بعد الليل الا
فجر مجد يتسامى