الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
حين كان ياسر عرفات محاصرا وحيدا في المقاطعة خلف أكياس الرمل تقصفه دبابات شارون . أغلق زعماء العالم هواتفهم وتركوه وحيدا ... ونذكر له وللشهداء معه قصيدة الشاعر الجزائري الدكتور عبد الله عيسى لحيلح.... وبقيت وحدك في المطار :
وبَقَيْتَ وَحْدَكَ في المَطارْ ..
الضّوء يُطفأ، والظلام على انتظارٍ والدُّجى، والطيرُ طارْ ..
تلهو بأعقاب السّجـائر والثِّـقـاب .. وتنُـشُّ عـن عيْنَيْـكِ أسْـراب الذُّبَـاب
بين التَّمخُّـط والتّمطُّـط ينقضي اللّيْـل المعـرَّب، والعروبةُ في اجتماعٍ في إطارْ(..) !
والطّيْرُ طـارْ ..
وبكيت وحْـدَك في المطارْ
***
نسخوك أنت بما تكدّس في المحاضر من حروف ..
نسخـوك وحـدك بالدَّرابـك والدُّفــوف ..
أو يُنْسَخُ السّيف المعرّى في الهجير كما القذيفة في الظّلام ؛
أو يُنْسَخُ الوطن المعلّق كالفوانيس اليتيمة لا تنام ؛
أو يُنْسَخُ الجسد الملغّم بالطّوى في أيِّ وقتٍ قابلٍ للإنشطارْ ..
والطّيـرُ طـارْ ..
**
وبَـقِيـتَ وحدك في المطارْ ..
فلكلّ ما خلق الإله على البسيطة والسّمـا دار وعشّ أوجحورْ ..
إلاّك أنتَ .. حقيبةٌ كسلى وبَوْصَلَةٌ تَدورْ ..
فَمِـنَ المطـارِ إلى القطار إلى المطار إلى القطار !
والطَّيْـرُ طَارْ ..
وبَكَيْـتَ وحْدَك في المطـارْ ..
***
وبَقيْـتَ وحْـدك في الحِصـارْ ..
البَـرُّ أضْيَـق ما يكونْ ..
والبحـرُ أبْعَدُ ما يَكونْ
ومَخالِبُ الأَعْداء تَنْهشُ ما تَبقَّى مِنْ يقينٍ في اليقين ومن ظنون في الجُنونْ ..
مِنْ أيِّ ثُقْبٍ سوف تخرج كي تعود بشارةً عذراءَ تمرَحُ في فضاءات الظّنون ؟!
شاهت وجوه الخائنين، وقد أعَدُّوا للنَّفيـر شَخيرَهم متسربلا بالعهْـر في ليل الغواية والمجون !
وإذا استفاقوا ساعةً فَلِيَحْتَـسُوا بنت الدِّنان ويوقّعوا شِيكاتِهم ويوسّعوا ظُلمَ السّجون !
وإذا رَأَوْكَ على مَداخِلِ "أورْشليم" كَشامَةٍ للكبرياء تضجَّروا،
واستصرخوا طبْلاً وطارْ ..
والطير طارْ
وبقيت وحدك في المطارْ ..
***
وبقيت وحدك بين رايات الهزائم رايةً للإنتصارْ ..
شُدّتْ خُطاك إلى الرّياح، وشُدّ دربـك والرياحُ إلى الحجرْ
فاشْـدُدْ إلى رعشـات روحك ناسفـاً ثم انفجـرْ
وطـنٌ على مرمـى حجـر ..
منفـى على مرمـى حجـرْ ..
مـوت على مرمـى حجـر ..
حجـرٌ على مـرمى حجـر!
فاضمم عليه جوانحا حتى يغور إلى دماك، فكلّهمْ قد أثـثـوا المنفـى
وراكَ، وأجمعوا أنْ يجعلوك مغنيًّـا أعمى يُنَـشُّ به الضجـرْ
أو راقصـا من غير سـاقٍ وسْـط شعب كالغجـرْ ..
فافْرِدْ جناحكَ كالشراع معَـرّجاً ثم انتشرْ .. لم يبق إلا الإنتشـار ..
واسفـح دماءك في قـوارير الدُّجـى، واسكب عيونك في النهـار ..
وإذا تعسَّـر عنـك ذلـك فانكسـرْ، وكُنِ البـذارَ موزَّعـاً في الإنكسـارْ ..
والطيـر طـارْ ..
وبكيـت وحدَك في المطـارْ ..
***
"قابيل" خلْفَـكَ والغُـرابْ
لا ملجـأٌ للاّجئـين، من الدّمار إلى الحصـار إلى الخـرابْ
لا ملجـأٌ للنّازحيـن من "القطـاع" إلى سـراب البدو لا خبز هناك و لا شـرابْ ..
لا تشتك ! ..
لا شيء .. سيفُـك غـار فيـكْ
لا تتكـئْ .. فبنوكَ من قتـلوا بنـيكْ ..
أو يُنْكِـر الـدم قطـرة منـه تصوّي للمحاصَـر تحت ضَوْء البدر أو شمْـس الدّمـارْ ..
والطيـر طـارْ ..
وبقيـت وحـدك في المطـار ..
***
واللاجئـون من الملاجـئ للمـلاجـئ في انتظـار قذيفة تضع النهاية للرحيـلْ ..
والقاتلـون من المحـاكم للمحـاكم يشتكون من القتـيلْ ..
وبقيـت أنت مخيَّراً بين البديل أو السبيل أو "الخليـل".
سـدّد رصاصتـك الفصيحـةَ كيْ تخُطَّ لَكَ المَسـارْ
فالعرْس عرْسُك والزغاريد الحزينـة والبنادق والخنادق والعـروسْ ..
"بيـروت" يا أبتي مـدلّلـة، مضلّلـة، وأشْـأَمُ من "بَسـوسْ" ..
"بيروت" أوْرادُ السَّمـا .. "بيـروت" مـزمـور المجـوسْ ..
من عرّبوك وغـرّبوك قـد أعربـوك كمـا المضـافْ
من مركسـوكَ قد أركسـوكَ ومرّسـوكَ على الخـلافْ !
مأسـاتنـا قلـبٌ تعشّـق واشتهـى، وفـمٌ تمرَّدَ أنْ يبـوسْ
ويدٌ تنـاضل بالمنابـر والمنـى، ويدٌ تجاهد بالأظافر والمصاحف والفؤوسْ
مأساتنا "قابيل" نحن، ونحن "هـابيل" المُكفَّـن والغُـرابْ
كن خندقـا أو فندقـا وسحـابـةً تلِـدُ السحـابْ !..
يتفسـخ الزمـن الأجـاج، وأنْتَ تبْـقى كالحمـامـة في المآذن والقبـابْ !..
في ظلمـة القبْـر الملبّس بالجليـد وباليهود وبالمُـدى غدر الصحابْ ..
خـانوا المسيـرة والمسـارْ ..
هرب اليمين مع اليسـارْ ..
والطيـر طـارْ ..
وبكيـت وحـدك في المطـارْ ..
***
وبقيـت وحـدك في الحصـارْ ..
ولمـرّة أخـرى تُمـدّ بَسَائـط المنفى أمامَـكْ
وكسابِقِ المرّات يحضُنُـك اغترابٌ موحِلٌ، فتدسّ في فوضى حقائبه خيامَـكْ !
وتلـمُّ أنجمَـك الكليلـة من سمـاء الآخريـن، ومن لياليـهم ستسحبُ مرة أخرى ظلامَكْ !..
وتشدّ أشرعة الرَّحيـل إلى عظامك .. يا ابْنَها لله ما أقـوى عظامـكْ !
إن عكّرت وجْهَ السمـاء صقورهم ونُسورهم، لكَ أن تطيّر تحت منسرها حمامكْ !
وإذا انتشى شبقُ الخناجـر منْ دمَـاكَ، فسُفَّ ريحَ وعودهم واشربْ سـلامَكْ !
ستديـن وجهك غاضبا ملء المـرايا، فالأحبـة والعدا اتفّقـوا عليك، وكلهم راموا ابتسامَكْ.
وتدين بسمتَـك العروبَ لأنّ فيها ألفَ معنى فاق في المغزى كلامَـكْ ..
وتدين كلمتك الفصيحة رغم أنفك، فالكلام الحرّ قد أضحى وسامـك ..
وتدين صمتك مكرهـا، فالصمت راش سهام قوسـك وانتقـامك ..
وتديـن ذاتك كلها وتحل للبلوى حزامك !.. أي نعم!
وتحل للفـوضى حزامك
قد بـاعـك العـرب الكـرام جميعهـم، والغدر سامك
لكن ربك اشتراك لكي تكون أمين مربط خيلـه ..
الله! .. كم أعلى مقـامـك!
كم حاكما يا ابن النبـي رأيتهـم لك ساجديـن، وكم "يهودا" قبلـوك
وكبّلـوك، وسمّموا حسدا طعامـك ؟
واستدرجوك إلى فخـاخ الآخرين، فمن حصـار في الشمـال،
إلى حصـار في الجنـوب، إلى حصـار في الحصـار ..
أو ليـس من سخرية الأقـدار أن تحيا اضطرار ؟!
والطيـر طـار ..
وبقيـت وحـدك في المطـار ..
***
هـرب الرفـاق مع الـرفاق
تتهرّب الأشيـاء منك وتختفي في أيّ جحـر أو زقـاق
وبقـيت أنت محاصَرا ومحاصِرا، سقط التعايش فـوق رأسك والوفـاقُ
من سلّحـوك وسلّعـوك قد أسْلمـوك .. فلا تهـن،
إن العشـائـر لن تعيـش بلا نفـاق
طعنـوك في قمـم "الرباط" فسـال جرحك في العـراق
سـدد مسدسك الفصيح على المعابر للشمال وللجنوب ولليميـن ولليسـار ..
سدد مسدسك الفصيح إلى صدور المضربين عن الجهـاد، المقبلين على الفـرار
قـد لا تعـود، وقـد تعـود
سـدّد قصـاصـك لا تحـدّد .. فالحـدود بلا حـدود .
ومن المحيط إلى الخليـج، وحيثما ولّيت وجهـك ثمّ وجـرٌ لليهـود ..
ذهبـوا بما تهـب الصحـارى والقفـار ..
والطيـر طـار ..
وبقيـت وحـدك في المطـار ..
يتفتت الحـزن المخيّـم كالضباب على المخيّم والسجـون
واللاجئـون يفتشون على الملاجئ للأجنـة في البطـون ..
اللاجئون من الصديق إلى العـدو، من الحنين إلى الحنيـن،
من اليقيـن إلى الظنـون
كن قاتلا حتى تكـون !!
كن طلقـة وقذيفـة إنّ العشـائر معدن رخـو سريـع الإنكسـار
يتفتت الزمن المعلّق كالذبيحة في الجـدار ..
والطيـر طـار ..
وبكيت وحدك في المطـار ..
***
سقـط النضـال على النصال
فرّ الرفـاق إلى الحدائق والظـلال
وبقيـت تنزف في الحـرائق والضـلال
منفاك فيك، وفيك ما يكفيك عن ذلّ السؤال ..
فجّر بنيـك .. أما رأيت الشرق يشربه الزوال ؟!
لا .. لا تصدّق مجلس الأمن الكـذوب ..
و"القـدس" ذنبك !.. هـل تتـوب ؟!
صـوب "الجنـوب" قوافل الشعب المقـاتل، فالعشائر سيرها صوب المراقص في الشمـال !..
غلب الهـوى .. طـال النـوى والإنتظـار ..
والطيـر طـار ..
وبقيـت وحـدك في المطـار ..
***
وبقيـت وحـدك غائمـا، تتصفح الصحف الموجهة العميلة لليسـار ولليمين وللوسـط ..
لغـط الحـوار على المحـاور قد سقـط !
فإلى متى لست اليمين ولا اليسـار ولا الوسـط ؟
وإلى متى لست الخليـط إذا اختلـط ؟!
من شيّعـوك على البـواخر بالحماسـة والفصاحة والشواهد والكفـن،
قبض الثمـن !
يتطحلب الوطن المكدس في السـواحل والسفـن ..
يتشـقق الشـوق المقـدس في الحنايا والشجن ..
فإلى متى نبقى قطيعا في العـراء بلا مـراح !
وإلى متـى نبقـى ظـلاما في الظلام بلا صبـاح !
وإلى متى شعبا تترّس بالقبـور وبالمجاز والكفن،
ومواطنيـن بلا وطـن ؟!
أو كلما قبروك في جسد الشهيد، وحطّمو الدنيا عليك طعلت من بين الخرائب كالعُزير .. ؟
أو كلما نثروا رمادك في وجوه الذاهبيـن إلى الجحيـم نطقـت : لا !
وبحثت عن حجر يقاسمك المصير ؟
أو كلما عشق الشقي شقية كنت الذبيحة والوليمـة والفطيـر ؟
أو كلما ضحك الملـوك مع المـلوك تكون أنت فكاهة أو نكتة الزمن الأخير !
صدئ المسدس والرصاص ..
ولسانك الدامي تهرّأ في الحديث عن الخـلاص !
يا من تفتش تحت أقـدام المـلوك وفوق أعنـاق المشانق عن مصيرْ
طردوك من كل الحدود وطاردوك .. فأين أين تحـط ؟
من أيّ المواقع قد تطيـر ؟
في أيّ منفى تكتب الذكـرى، ومن أي العشائر تحتمـي، وبأيّها قد تستجير ؟
ما عدت تدري ما ستخسر في غـد، وبأيّ أرض قد تمـوت، وأين تطلق شهقـة النفس الأخير !..
الله !.. كم تبكي وتضحك للعواصم والقواصم يا ابن يعقوب الضرير !
كم تستغيث ولا تغاث بغير ما يشوي وجوه اللاجئين الهاربين من الجحيم إلى السعير!
والطيـر طـار ..
وبكيـت وحـدك في المطـار ..
وبقيت وحـدك في الحصـار