نشر بتاريخ: 14/11/2017 ( آخر تحديث: 14/11/2017 الساعة: 12:03 )
الكاتب: هاني المصري
عشية اجتماع القاهرة الذي سيعقد بعد أسبوع بالتمام والكمال للبحث في القضايا التي تضمنها اتفاق أيار 2011، ورغم الآمال الإيجابية الناجمة عن سلسلة من الخطوات التي تحققت حتى الآن، إلا أن المخاوف من الفشل تتزايد جراء عدم رفع الإجراءات العقابية، وعدم معرفة موعد رفعها، وبسبب أن تمكين السلطة من الحكم في قطاع غزة لا يتم عبر حكومة جديدة تعبر عن الوحدة، وغير محدد تحقيقه لا وفق معايير أو سقف زمني، وسيأخذ شكل عودة السلطة بعجرها وبجرها والتزاماتها المترتبة عن اتفاق أوسلو إلى قطاع غزة، من دون التوقف عند أن الوضع في القطاع رغم استمرار وقوعه تحت الاحتلال يختلف بعد إعادة تنظيم وانتشار القوات المحتلة، ما سمح بحرية الحركة فيه وبإنشاء أجنحة عسكرية للفصائل.
كما أن تمكين السلطة في القطاع لم يأخذ بالحسبان ضرورة تغيير السلطة وشكلها وطبيعتها ووظائفها والتزاماتها من سلطة حكم ذاتي مؤقت كان من المفترض وفق اتفاق أوسلو أن ينتهي في أيار 1999، عبر التوصل إلى اتفاق نهائي كانت القيادة الفلسطينية تأمل منه أن يتضمن إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة إلى سلطة أخرى، مع تغييرات تنسجم مع حصول دولة فلسطين على الاعتراف الأممي بها كعضو مراقب، بحيث تصبح وظيفة السلطة الجديدة المساعدة على إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة المستقلة. وهذا ظهر من خلال استمرار الحكومة كما هي رغم الملاحظات الجدية حول مدى كونها وفاقية، والنية تتجه إلى بقائها كما هي حتى إجراء الانتخابات التي لا يُعرف متى يمكن إجراؤها حتى لو اتفق على موعدها، لأن هناك خشية منها، وهي بحاجة إلى استعداد لتقبل نتائجها المجهولة، أو السعي لجعل نتائجها مضمونة عبر توافق فلسطيني ومناخ مناسب وضوء أخضر أميركي إسرائيلي ودولي وعربي.
بات تحقيق هدف إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة أصعب بكثير بعد مرور أكثر من أربعة وعشرين عامًا على توقيع اتفاق أوسلو، وظفتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، وتقطيع الأوصال والحصار والانقسام، وتهميش القضية الفلسطينية، وحث واستكمال الخطى لتصفيتها.
يشعر الفلسطينيون أن المصالحة الجاري تنفيذها شكلية وأقرب إلى عملية مصالحة من دون مصالحة، إذ إنها تتجنب القضايا الأساسية (السياسة والأمن والسلاح والشراكة)، ما يعني أنها ستنتهي في أحسن الأحوال إلى أن تتخلص حماس من عبء الحكومة، مع حرصها على بقاء موظفيها المدنيين والأمنيين من دون أن تتحمس للمشاركة في الحكومة القادمة مشاركة حقيقية لعدم قبولها بشروط اللجنة الرباعية التي يضعها الرئيس شرطًا لمشاركتها، ولأنها تفضل أن يتحمل الرئيس و"فتح" المسؤوليات الثقيلة حتى يدفعا ثمن الفشل وحدهما، فالحصار لن يرفع حتى إذا تحققت المصالحة، بل في أحسن الأحوال سيخفف، ومعبر رفح لن يفتح إلا وفق القرار المصري الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن في سيناء. كما أن توحيد المؤسسات وصرف رواتب الموظفين يتطلب توفير موارد مالية إضافية لا توجد ضمانات لتوفيرها، فضلًا عن الحاجة إلى ورشة ضخمة لإعادة توحيد المؤسسات المدنية والأمنية والقضائية، وإزالة آثار الانقسام الإدارية والقانونية والاجتماعية والثقافية التي أوجدت مصالح لأفراد وجماعات من مصلحتها بقاء الانقسام، ومراكز قانونية سيكون التعامل معها صعبًا للغاية إذا لم تتوفر إرادة فولاذية لا يمكن أن تتوفر من دون أن تكون المصالحة جدية وليست شكلية.
يكفي في هذا السياق أن أشير إلى ان مشكلة توزيع بعض أراضي الدولة، وكيف سيتم التعامل معها بعد أن استغلها الحاصلون عليها لبناء بيوت أو مشاريع للعمل أو غيرها، وإلى نوع من الازدواجية التي بدأت تظهر ما بين سلاح السلطة وأجهزتها الأمنية الملتزمة بالالتزامات السياسية والاقتصادية والأمنية، بما فيها التنسيق الأمني والتعهد بوقف المقاومة وملاحقتها، وبين سلاح الفصائل، الأمر الذي سيؤدي إذا لم يتم الاتفاق على ضبطه وتنظيمه وإدارته إلى واقع أن السلطة ستسيطر على ما فوق الأرض والمقاومة ستسيطر على ما تحتها، وهذه وصفة مضمونة لصدام سيأتي عاجلًا أم آجلًا.
إضافة إلى ما سبق، هناك خشية لدى الرئيس و"فتح" من أن تكون المصالحة الجارية تستهدف تمرير ما تسمى "صفقة القرن"، وأن عدم التعاطي الإيجابي معها سيطرح بدائل أخرى، مثل العودة إلى الانقسام وتحوله إلى انفصال، ودويلة غزة مقابل تهدئة طويلة الأ، إذ يحل محل "فتح" تحالف بين "حماس" وتيار دحلان ومن يرضى أن ينضم له من الفصائل والمؤسسات الأخرى. كما أن هناك خشية لدى "حماس" من أن تستهدف المصالحة ترويضها، وإذا لم تروض، خصوصًا إذا لم تبتعد عن إيران وحزب الله، وتعترف بإسرائيل وتوقف الحصول على السلاح وتطويره وعن بناء الأنفاق، قد يؤدي إلى ضربها ونزع سلاحها بالاستعانة بقوات مصرية أو عربية أو غيرهما.
عرضت ما سبق ليس لأبرهن أن المصالحة مستحيلة، بل لأبين حجم المشكلات والعقبات التي تتطلب مقاربة مختلفة تتجاوز كليًا المصالحة الشكلية لتحويلها إلى وحدة حقيقية شاملة.
إن المقاربة الوحيدة التي يمكن أن تُنجزَ الوحدةَ التي تحتاج إليها القضية والشعب هي الاتفاق على رزمة شاملة نعرف منذ البداية إلى أين ستنتهي، وماذا سيقدم كل فصيل، وخصوصًا "فتح" و"حماس"، وماذا سيأخذ، وما سيعطي الرئيس من سلطاته وصلاحياته التي تضخمت كثيرًا في ظل الانقسام، إذ باتت مختلف السلطات في يدٍ واحدة؟
تحتاج مقاربة الرزمة الواحدة أولًا إلى رؤية شاملة تتمحور على كيفية مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، خصوصًا الضم المتدرج والضم الزاحف للاستيطان، وتوظيف الفرص المتاحة، وثانيًا إلى إرادة قوية لدفع الأثمان الغالية، فللوحدة أعداء داخليون وخارجيون، ولن يسمحوا بتحقيقها بسهولة، وثالثًا إلى خطط عمل تنطلق من الأمر الواقع ليس من أجل الخضوع له والتكيف معه، ولا من أجل التهور والمغامرة بالقفز المتسرع عنه، ولا من الأحلام والينبغيات والشعارات الكبيرة، وإنما من خلال التعامل معه (أشدد وأكرر التعامل معه) من أجل تغييره بالتدريج.
يمكن أن تتضمن الرزمة الشاملة ما يأتي:
- إعادة الاعتبار للمشروع الوطني والقضية الفلسطينية من خلال التأكيد على أن فلسطين تمر بمرحلة تحرر وطني، وأن تأسيس السلطة يطرح مهمات بناء ديمقراطي في سياق التحرر الوطني وتتطلب تغيير وظيفتها، والتأكيد على برنامج العودة وتقرير المصير والحريّة والاستقلال والمساواة، وعلى الرواية والحقوق الطبيعية والتاريخية.
وهذا يفترض وضع إستراتيجية سياسية ونضالية محورها العمل على تغيير موازين القوى من خلال مقاومة ذكية لا تسقط أي شكل، ولكنها تستخدم الشكل أو الأشكال المناسبة في الوقت المناسب؛ حتى تسمح بتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وحقوقه، فلا حل وطنيًا في ظل الظروف القائمة، وإنما إبقاء القضية حية، والتواجد البشري على أرض فلسطين، وتوفير مقومات الصمود، وتقليل المخاطر والخسائر، والحفاظ على ما تبقى من مكاسب، وإحباط المخططات المعادية للقضية.
- إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير على أسس وطنية وديمقراطية توافقية ومشاركة سياسية كاملة، لتضم مختلف ألوان الطيف التي تؤمن بالمشاركة.
- تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها لتناسب فشل وتجاوز إسرائيل لاتفاق أوسلو، وتماشيًا مع حقيقة حصول دولة فلسطين على الاعتراف الأممي.
- تشكيل حكومة وحدة وطنية تعتمد برنامجًا سياسيًا يحفظ الحقوق والأهداف ويستطيع التعامل مع الواقع باتجاه تغييره .
- الاحتكام إلى انتخابات منتظمة ودورية على جميع المستويات والقطاعات، عامة ومحلية، حيثما أمكن ذلك، والاتفاق على معايير موضوعية واعتماد الوفاق الوطني في الأماكن الذي يتعذر فيها إجراء الانتخابات، على أن تكون الانتخابات في إطار الوحدة وأداة من أدوات مقاومة الاحتلال، وعلى الحكومات التي ستشكل أن تجسد الوحدة الوطنية في كل الأحوال بغض النظر عن نتائج الانتخابات، فما يتغير من سيختار رئيس الحكومة وكيف ستوزع الحقائب الوزارية دون إقصاء أحد.
حتى تزيد فرص النجاح في اجتماع القاهرة ولا يكتفي بتحديد جدول أعمال وتشكيل لجان للبحث في القضايا المختلفة، لا بد من توسيع تمثيل المشاركين في الحوار ليضم كفاءات وطنية مستقلة، مع تمثيل أوسع للنساء والشتات، وتمثيل الشباب المغيبين بصورة تتناسب مع حجمه ودوره وطاقاته.
من دون مشاركة حقيقية لا توجد مصالحة، ولا يمكن تحقيق النصر. والمشاركة تعني تحمل المسؤولية وتوزيع المكاسب من وعلى مختلف الأطراف، وبهذا تكون لدينا قيادة واحدة ومؤسسة وطنية جامعة وبرنامج مشترك يحدد كيف نقاوم ومتى نفاوض عبر قرار واحد ومرجعية واحدة .
في الختام إن ما يتضمنه هذا المقال طموح جدًا ومتعاكس مع ما يجري على أرض الواقع، ولكنه وفق اجتهادي المقاربة الضرورية للجمع ما بين المبادئ والحقوق والمصالح من دون مغامرات ولا تنازلات مجانية، وهي كفيلة إذا اعتمدت بتحقيق التقدم والنجاح والانتصار، وعلى من يؤمن بها أن يسعى لتحقيقها، وخصوصًا أن محاولات تحقيق المصالحة وفق مقاربات أخرى قد فشلت ومعرضة للفشل.
[email protected]