الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

هل يمكن القضاء على الجريمة وفقا للمنظور الإسلامي؟

نشر بتاريخ: 17/11/2017 ( آخر تحديث: 17/11/2017 الساعة: 15:54 )

الكاتب: عيسى برهم

تحكم السنن الإلهية، والقواعد والقوانين التي تسير عليها الحياة البشرية في عالم الإنسان، سلوك هذا الأخير شاء أم أبى، حيث جبل على الكثير من الغرائز والشهوات التي تتحكم في تصرفاته وتوجهه وجهات مختلفة، فبين المباح والمحظور، صراع في النفس الإنسانية، سيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فسنة الإفساد في الأرض وسفك الدماء سبق خلق آدم وذريته على الأرض.
منذ خلق الله عزل وجل سوميا (أبو الجن) قبل خلق آدم بألفي عام قال الله تعالى لسوميا تمن يا سوميا، فقال سوميا: أتمنى أن نَرى ولا نُرى، وأن نغيب في الثرى، وأن يصير كهلنا شابا، وقد لبى الله عز وجل له أمنيته، وأسكنه الأرض له ما يشاء فيها، حتى أفسد فيها ذريته الحرث والنسل وسلط الله عليهم جنودا من ملائكته، قتلوا فيهم من قتل، وأسروا من أسر، وكان من هؤلاء الأخرين إبليس الملعون، هذا الأخير الذي تكبر على أمر بارئه ورفض الامتثال لأمره، طرد من الحضرة الإلهية وجنانها الواسعة، ليكون ندا وعدوا لآدم عليه السلام وذريته.
إن في كتاب الله عز وجل – القرآن الكريم - الكثير ما يدعو إلى التوقف ويبعث على التأمل فيها، وحري بذلك أن يكون ملهما للسياسات والاستراتيجيات الحكومية والأممية أن تعيره شيئا من الانتباه والإصغاء، حيث يقول تعالى في سورة البقرة- الآية 30، (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون). وقال تعالى في سورة الإسراء- الآية 62 على لسان إبليس اللعين (قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا)؛ لذلك بعث الله الأنبياء والرسل، لينشروا التوحيد، وفضائل الأخلاق بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، الصدق، الأمانة، العدالة وغيرها؛ لينشر الأمن والسلام ويحيا الإنسان فيها دون فساد أو ظلم.
إنه صدق اللسان منبع البر والخير للإنسان والهادي للسلوك القويم، وإن ضده – الكذب- مستنقع الفجور والشر والظلم، إنه أي الصدق أحد القيم أو الفضائل أو الأخلاق التي فيها تتحدد وجهة الإنسان وسلوكه كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم بها (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا).
وعلى ذلك، يقع الظلم والفساد والإجرام بمختلف أشكاله وصوره ومعدلاته، إن المدارس الحديثة في علم الجريمة وعلم الاجتماع الجنائي، والنفس الجنائي وغيره من العلوم أفاضت في العوامل الاجتماعية والنفسية المختلفة الصانعة للسلوك الإجرامي، كأسباب مباشرة أو متعاضده مع بعضها، لولادة الفعل الجرمي مهما كانت درجة إيذائه، وقد شكلت الأسرة والتربية والقيم إحدى هذه المحطات الباحثة فيه والمفسرة له.
استدركت المنظومة الأممية سياساتها وبرامجها في منع الجريمة والعدالة الجنائية، وتجلت قراراتها المختلفة كنتاج لمؤتمراتها وندواتها على مدار سنين طويلة بالانكباب على إصلاح الظروف الاجتماعية والاقتصادية المختلفة للتقليل والحد من الجرائم، إذ وجدت في سوء هذه الظروف الصحية بما يشمل النفسية والبدنية والاجتماعية كالتعليم، والاقتصادية كالفقر وشح الحال أسبابا دافعة بما لا يدع مجالا للشك نحو الإجرام، وارتبطت المكافحة والمنع لهذا الأخير بتلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية كأسباب رئيسة لمكافحة الجريمة ومنع غوائلها؛ في إطار النهج الشامل لتمتيع الإنسان بكافة حقوقه الإنسانية التي أقرتها مجموع الأمم البشرية في ميثاق حقوق الإنسان، وارتبط ذلك بمجمله فيما بعد بالتنمية والازدهار، كمطلب حديث، لكنه قديم.
في سياق متصل، كانت النتائج في إطار مسعى للبحث عن العدالة بمفهومها الشامل- الاجتماعي، الاقتصادي، الجنائي، القانوني، السياسي، تلك القيمة أو الفضيلة التي مثلت نقطة انطلاق لفلسفة أفلاطون، فهام بها سنين طويلة بحثا عن معناها وإدراكا لوجودها في العيش الإنساني، وذلك عندما تم إعدام معلمه سقراط، هذا الأخير الذي سئل في المحكمة عن نوع العقوبة التي يستحقها ويقترحها على المحكمة أجاب: أن تقوم الدولة بتأمين سبل العيش لي مدى الحياة في مقابل قيامي بتوجيه الناس نحو قيم الخير والإصلاح، لكنه لم يكن سوميا ولم يكن السائل خالق الأكوان فتم إعدامه.
على ذات المرمى، كانت الأخلاق هما، أرق كونفوشيوس الفيلسوف الصيني قبل الميلاد، وأخذت فلسفته في الأخلاق بكل معانيها ومضامينها ومحتواها تدرس فأصبح مدرسة يتتلمذ بها من تتلمذ ومن يريد والذي قال عن ذلك كله مختصرا (إذا قام البيت على أساس سليم أمن العالم وسلم)، فالأخلاق الفاسدة الناتجة عن اتباع الهوى والذي ذكر فيه الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين: (وأما الهوى فهو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها ويظهر من الأفعال فصائحها، ويجعل ستر المروءة مهتوكا، ومدخل الشر مسلوكا، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله يعبد من دون الله ثم تلا "أفرأيت من اتخذ إلهة هواه").
وبعيدا عن الطوبائية (نزعة الحكم لحياة مثالية خالية من العيوب)، هذه الحياة الرتيبة التي قال الدكتور علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري عنها: (حاول بعض الطوباويين في أمريكا أن يؤلفوامن أنفسهم مجتمعا هادئا بعيدا عن تكالب الحياة، وقد نجحوا في ذلك أول الأمر، ويمكنهم سئموا منه أخيرا وهربوا منه، يقول وليم جيمس بعدما عاش بينهم بصنعة أيام: أصبحت أشتهي أن أسمع طلقة مسدس أو ألمح لمعان خنجر أو أنظر إلى وجه شيطان، وعندما خرج وليم جيمس من هذا المجتمع الطوبائي قال: أنا سعيد حين أخرج إلى عالم فيه شيء من الشر!!). ويقول الوردي في ذات الكتاب: (الانحراف او البغاء أو الجريمة أو ما أشبه من المشكلات الاجتماعية لا تنشأ عن سبب واحد، وليس هناك من يستطيع القضاء عليها قضاء تاما، والإصلاح الاجتماعي إذن يتناول المشكلة من حيث نسبة انتشارها بين الناس، وهو يسعى في سبيل تخفيض تلك النسبة، لا في سبيل إزالتها من المجتمع نهائيا).
إن مدينة أفلاطون الفاضلة، ومجتمع الطوبائيين ضرب من الخيال ونسج من الأحلام التي لا يمكن أن تتوافق مع السنة البشرية في وجود الإنسان، فلا يمكن أن تجد في سحق الأزمان البدائية أو المعاصرة المتحضرة مجتمع طبيعي لا إجرام فيه ولا عنف، فهي أي الجريمة مرتبطة بوجود الإنسان قل وجوده في المجتمع أم كثر، فهابيل وقابيل وقصتهما في القرآن أول دليل على الأرض في الجريمة، وهي سنة يهوى الشيطان وجودها ويسعى دوما لتحقيقها، والإفساد من سرقة أو تعدي أو إيذاء للغير أو النفس ستبقى في بقاء الإنسان وديمومة وجوده، وهي واضحة في القرآن الكريم وضوحا لا يتعاماها إلا من تكبر عن الفهم أو الإدراك أو الحقيقة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، ولهذا كان عالم الاجتماع الجنائي في العصر الحديث دوركايم مدركا لهذه الحقيقة (ليس أنه استنبطها من كتاب الله)، وصاغها في نظريته اللامعيارية (الأنومي) بصورة يخلص فيها إلى نتيجة أن تطور المجتمعات ونموها والقواعد والقوانين التي ستبقى وتتكاثر معه تجعل من الجريمة ظاهرة ضرورية وحتمية مع هذا المجتمع.
إن الموروث في أدب قرارات الأمم المتحدة أدرك هذه الحقيقة أيضا ورغم التخبط في المصطلحات بين المنع، والمكافحة، والمعالجة، لا تحيد كلها على اختلاف ما تعنيه هذه المفاهيم المركبة مع الجنائية عن مسعى وحقيقة وهدف واحد، وهو العدالة الجنائية، باستخدام منظومة العدالة لمكافحة الجريمة بصورة شمولية من خلال أداوتها القضائية والأمنية والإصلاحية، في جو تنموي شامل يتمتع فيه الإنسان بكافة حقوقه الإنسانية اللصيقة بخلقه ووجوده وتطوره.
من نافلة الحديث، القول أن العدالة بأي مفهوم فلسفي أو قانوني أو اجتماعي، وطالما بقيت نسبية في التمتع بها داخل المجتمع، سيعني أن هناك مظالم، ومظالم كثيرة لفئة من الناس، وأن ذلك يعني أن وجود الجريمة بتفاعل الظروف الاجتماعية والنفسية المختلفة لهذه الفئة المحرومة أو المظلومة سيكون أكثر احتمالية، كيف لا وقد ربطت العبادة لله الواحد بالأمن النفسي والجسدي والتمتع بالعمل والتجارة وصدق الله العظيم إذ يقول (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبد رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، إنها العبادة وقد طلبت بعد أمن الجوع والخوف، فكيف لا تنتظر في غياب أحدهما سلوكا مناهضا ومضادا للمجتمع.
أدرك الفاروق عمر بن الخطاب هذه المعادلة، فمنع حد السرقة في زمن المجاعة في القصة الشهيرة، وأدرك هذه العدالة القضاء الفرنسي كقيمة سامية تقوم عليها الممالك، وتنهار بغيابها، وذلك عندما قال أحد القضاة الفرنسيين في أحد أحكامه (إنه لمن العار أن تكون دولة عظمى كفرنسا- يعاقب فيها سارق لخبزة يسد بها جوع بطنه).
ختاما، إن طبيعة جبلة الإنسان وسعيه الفطري إلى الخلود واللذة، كما جاء على لسان إبليس لآدم وحواء حين إغوائهما (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، سيبقى سنة ودافعا للإجرام في الحياة البشرية خالدة بوجوده (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدسك لك) صدق الهل العظيم. وإن غياب الجريمة أو انعدامها في مجتمع غير ملائكي، يعني شيئا واحدا وهو انتهاء البشرية عن الحياة الدنيا. عندما تُكَوَّر الشمس وتُسَجَّر البحار، وستبقى العدالة طودا عظيما أو جبلا شماًتتسابقه آمال الضعاف والمظلومين إلى نيل حقيقتها. رفعت الاقلام وجفت الصحف.