الكاتب: منذر ارشيد
(4) الحلقة الرابعة
لم يعد هناك مجال للتأويل أو تأجيل الصراع فالعدو قرر حربا شعواء دون أي إعتبار لأوسلو ولا لأي تفاهم مع السلطة .. وقد أعلن ذلك جميع قادة الأجهزة الأمنية وقد تلقوا أوامر بإخلاء المقرات تحت بند ( أو الموت )...!
وأصبح القتل قرارا تم اتخاذه من المؤسسة العسكرية
وفي المقابل كان قرار المقاومين التصدي والتحدي والموت بشرف ..ولكن بدون تنسيق مع الأجهزة الأمنية التي كانت شبه مشلولة بسبب عدم وضوح الرؤيا وقيادة فاشلة لم تأخذ قرارا حاسما حتى بعد إعلان العدو صراحة أنه سيدمر كل ما يتعلق بالسلطة وبالفعل.. نفذ دمر وقتل..
والقيادة القادمة من جنوب لبنان نائمه. .
(جمال حويل).. حاولت أن اتجنب ذكر الأشخاص كما طلب من أكثر من أخ ولكن كيف..! ومنهم شهداء أو أسرى ودفعوا ضريبة التضحية والفداء للوطن..!
كثيرون هم القادة الميدانيين في الوطن كان لي شرف التعرف عليهم سواء في جنين أو في نابلس ومخيم بلاطة بالتحديد أما في بيت لحم التي خدمت فيها وقد تعرفت على المئات من الأبطال الأشاوس خاصة من كانوا يعملون في الأجهزة الأمنية والذين تشكلت منهم كتائب الأقصى بعد ذلك... أبطال كنيسة المهد .. أذكر ومن ومن... الشهداء ومنهم عاطف عبيات أو الأحياء ومنهم جهاد جعارة ووو الخ..
أما في الخليل فكانت لي لقائات مع الكثير منهم
رحم الله الحاج محمد العزة الذي لم يذكره أحد و كان من أهم القيادات الذين أسسوا الكتائب في بيت لحم والخليل وود وهم بالسلاح
البلد الوحيد الذي لم أتعرف على مناضليه .. طولكرم
وعندما أتحدث عن جنين فهي نموذجا لكل المواقع التي ناضلت وقاومت وأعتقد أنها كانت مستهدفة أكثر من غيرها وذلك للخزان الضخم من الشباب الذي كانوا في المخيم وهل ننسى إحتلاله وتدميره في نهاية الأمر..!
أعود وأقول جمال حويل... شخصية لا يمكن أن أنساها وهو
ربما لم يكن قد وصل إلى ال30 من عمره ولكنه كان نعم القائد الفذ ..ولم يكن فريدا في صفاته ولكنه كان ديناميكيا وشعله من النشاط والمثابرة
فالانسجام الذي حدث بيني وبينه كان غريبا عجيبا ، وذلك لأني من الصعب أن أنسجم مع أحد خاصة في مثل هكذا عمل... فأنا صعب المراس وحاد الطباع ومفاجيء. ..وعندما أغضب ليس من السهل أن يتحملني الطرف الاخر ،وأشهد أنه تحملني وتحمل غضبي وعصبيتي بذكاء وحكمة نادرة .
فمن بين عشرات الإخوة المناضلين توثقت علاقتي بالأخ جمال وكنت أشعر بارتياح شديد وذلك لأنه كان يفهم علي كما يقال عالطاير ، وكما أنه كان يحظى بثقة الجميع ليس في فتح فقط بل جميع الفصائل وذلك لطبيعته وأخلاقه الرفيعة وذكاءه المتوقد.. ولا أبالغ حين أقول أن جميع الفصائل التزمت به ومعه من خلال التشاور ووضع الخطط
إشتدت الأمور صعوبة بعد أن قام العدو بعدة عمليات إغتيال
بواسطة الأباشي
وما تلاها من حصار لمخيم جنين ومحاولات حثيثة لإقتحامه
وكان بالمقابل تواجد وصمود لكتائب الأقصى والجهاد الإسلامي وحماس وكل من كان يحمل السلاح
وما عادت المواجهات كما كان سابقا إلا من تظاهرات كانت ترافق تشييع الشهداء
تطور الأمر حتى قامت مجموعات بإعداد قليلة باختراق الحدود والإشتباك مع العدو من نقطة الصفر وفي مناطق أم الفحم وحتى حدود حيفا .. رحم الله الأبطال عكرمة ستيتي والشهيد مجدي جرادات عملا معا عمليات جريئة جدا وتم اغتيالهما في عملية قصف بالاباشي في مدخل المخيم..كانت خسارة كبيرة
والوضع العام..
أصبح هناك شبه إنفصال بين الجماهير والمقاتلين.. حيث لجأ الناس إلى بيوتهم عند الهجمات المتكررة على المدينة والمخيم في حين كان المقاومون يجولون الحواري والأزقه. .وكانت دبابات العدو تسرح وتمرح في قلب المدينة
وحتى لا أفهم خطأ لا أعني بالإنفصال الوطني لا بل في المواجهات وما أكثرها وقد بدأت تتعطل الحياة تدريجيا خاصة الأسواق التي أغلقت مما ضيق على الناس أرزاقهم
أصبح حال الأجهزة الأمنية ليس كما كان سابقا فبعد أن انضم الكثيرون منهم للمقاومة
وتم إخلاء المراكز الأمنية بعد أن تعرضت للقصف والتدمير
وتكونت مجموعات مقاتلة في المدينة وفي المخيم وتم وضع خطة للدفاع عن المخيم والمدينة .
وأذكر هنا أن قائد الأمن الوطني رحمه الله العميد عرفات قال كل شيء تحت أمركم ولكن لا تطلبوا منا أن نشارك بشكل رسمي فنحن ملتزمون بأوامر القيادة
وأذكر أننا كنا نشاهد كتائب وسرايا الأمن والشرطة منتشرين في السهول والوديان والجبال لا حول لهم ولا قوة..
فالأوامر المركزية كانت الإبتعاد عن مراكزهم خشية القصف
وهنا أشير إلى مسألة ..كان القرار ضرب كل مؤسسات السلطة.. وبالفعل تم ذلك .. لماذا لم يصدر قرارا للدفاع عن المواقع الرسمية ..صحيح أن القصف كان بالطائرات والمدفعية.. ولكن ألم يكن من حق الوطن أن يشارك الجميع في مواجهة العدوان وقد ترك المقاومون يقاتلون بإمكانيات المتواضعة... وهنا أشير أيضا أن مئات من الضباط والجنود التابعين للأمن الوطني والمخابرات والوقائي وال 17 شاركوا ولكن دون توجه رسمي علما أن العدو حاصر حتى مقر الرئيس الراحل. في رام الله وفي رام الله بالتحديد سقط عشرات الشهداء من ضباط وجنود الأمن الوطني الذين أبو إلا أن يموتوا بكرامه أمام العدو الذي تُرك يسرح ويمرح ...
وبدر بذهني سؤالا .. وكان لي إتصال مع القيادة في رام الله حول هذا الموضوع ..ألم يكن جديرا بأن يكون على رأس كل مجموعة من المقاتلين ضابط محترف وما أكثرهم..!؟
ربما كان يعتقد أصحاب الأمر أنهم ناجون كما حصل في جنوب لبنان!!؟
وأقول لهم... نجوتم فعلا في الجنوبين ولكن لن تنجون عند الحاكم العادل ..!
جريمة مروعة سارويها لكم ..وهي من الأحداث التي يجب أن لا تنساه ونرى حجم العبث والمسؤولية لدى القيادة المركزية تلك الفترة...
كان الوقت عند الإفطار وفي يوم من أيام رمضان
عملية وحشية وكان ذلك في رمضان حيث كانت سرية من الأمن الوطني ترابط على حاجز بالقرب من حاجز الجلمة الإسرائيلي.. وذلك حسب اتفاق مسبق
وكان وظيفتهم حماية المواطنين ومنعهم من الإقتراب إلى حواجز الجيش الإسرائيلي وذلك بالتنسيق مع الإرتباط
كنت دائم التواصل معهم وزيارتهم كل ما حانت الفرصة وكان قائد هذه السرية نقيب زميل وصديق من أطيب خلق الله وكان وفي كتيبتي في العراق وحتى في أريحا وفي ذلك اليوم كنت في زيارتهم قبل الإفطار بساعة
إستراتيجية أنهم تركوا الموقع السابق على الشارع وارتفعوا إلى تلة مجاورة.. فأخبر قائد الموقع أنهم تعرضوا لإطلاق نار
أكثر من مرة من قبل العدو ..تم تهديدهم اذا لم يغادروا نهائيا سيتم ابادتهم ...سألته هلل تعلم القيادة....
قال نعم ولكن هناك إصرار على بقائنا ... قلت لا هذا خطر ويجب أن تنتبهوا جيدا ولا تجتمعوا في مكان واحد...
دعاني الاخ النقيب أبو محمد رحمه الله للإفطار معهم فاعتذرت ، ولكنه شدد معاتبا ،
وقال بالحرف.. ولا نحنا مش قد المقام يا إبن الأكابر ..!
قلت..له يا رجل انتم تاج على رأسي وأنا حاضر وسأفطر معكم اليوم
وكنت مدعوا عند شقيقتي في نفس اليوم.. فقلت له.
ولكن دعني أعتذر من شقيقتي
ذهبت لبيت شقيقتي الذي لا يبعد سوى 500 متر عن الموقع وعلى نفس الشارع ، وطلبت منها أن تعفيني ولكنها رفضت وبكت وقالت نحن داعين أسلافي وأخبرتهم أنك ستكون عالإفطار كيف سيكون موقفي أمامهم ...!؟
شعرت بالحرج والحيرة وهي تبكي وانا أحاول إقناعه عبثا حتى حضر المدعوين فما كان أمامي إلا الرضوخ وقلت لهم معذرة سفر معكم خمسة دقائق وتوجه إلى الإخوة.... وشرحت لهم الوضع وبالفعل قررت أن أغادر بعد تناول القليل وأكمل عند الإخوان
وبعد لحظات أذن المؤذن وهممت بتناول حبة التمر والماء وإذا بصوت إنفجار ضخم يهز المدينة....خرجت إلى الشرف وإذا بدخان ينبعث من الموقع نفسه..
خرجت مسرعا وتوجهت للمكان فكان المشهد مريعا مرعبا
الأشلاء مبعثرة في جميع الأنحاء أقدام وأيدي على شجرة ورأس هناك وأمعاء هناك .. 10 شهداء ... كانوا يجتمعون على مائدة الإفطار...فتم غدر هم بكل خسه ونذالة
الله أكبر... أصدقائي أحبائي رفاقي أشلاء ..
قامت الدنيا في جنين والمخيم ليلتها وتم تشييعهم في اليوم االتالي الى قراهم وأماكن أهاليهم أتذكر من رابا آل االبزور الكرام إثنين ومن المغير ..وعرابة .. كارثة وطنية ..
والله لم أعرف الأكل ثلاثة أيام ورائحة لحمهم المختلطة باليورانيم المنضب لم تفارقني لمدة شهر
كل من عاش تلك الفترة يتذكر حجم الكارثة التي حصلت
جرت معارك طاحنة وفي ليالي متتالية وقد تعود الجميع على مثل هذه الهجمات عن بعد وخاصة من موقع حرش السعادة والجلمة
وكما جرى اقتحام المخيم في بعد العمل الضخم الذي جرى في نيويورك (عملية تفجيرات البرجين)
وكأن من قام العملية في أنريكا من جنين ومخيمها...
فكان هذا الإقتحام ولأول مرة وبشكل جنوني حيث استعمل العدو كل ما لديه من قوة دبابات مدفعية قصف طائرات
كان الصمود أسطوريا حيث إستخدم المقاتلون كل ما لديهم من أسلحة متواضعة خاصة الأكواع المتفجرة التي أربكت وأرهبت العدو من خلال عشرات المناضلين الذين كانوا يصعدون على ظهر المجنزرات ادوالدبابات ويلقون الأكواع والمولوتوف وتم منعهم من إحتلال المخيم
وكما أن المقاتلين في المدينة واجهوا هجوما من الحارة الشرقية .. وكما دخل مجموعة منهم إلى المخيم لدعم ومساندة إخوانهم هناك
وأذكر أن الإخوة في المخيم منهم جمال وعطا أبو رميله
جن جنونهم لتواجدي في المخيم أثناء تقدم الجيش نحو المخيم والقصف كان على أشده وطلبوا مني الخروج فورا
حتى قال الأخ جمال يجب أن تبقى خارج المعركة.. فنحن نحتاجك ولا نريد أن نخسرك. وبالفعل خرجت تاركا سلاحي معهم ....
يتبع (5) الحلقة الخامسة