نشر بتاريخ: 08/01/2018 ( آخر تحديث: 08/01/2018 الساعة: 14:35 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
قليلة هي البرامج التلفزيونية التحليلية الهادفة التي تسعى إلى تعميم المعرفة وتعميق الثقافة المجتمعية، وكثيرة هي برامج الإثارة التي تنفق عليها الملايين، من أجل استقطاب المشاهدين، من خلال استجواب الضيوف والإيقاع بهم، ونشر "الفضائح" تحت إغراء البوح أو إحراج الضيف وجره للحديث عن قضايا اجتماعية خاصة جداً، حيث يتبارى المقدمون (المحاورون) في نصب (الأفخاخ)، وعندما تخرج الضحية وتعود إلى البيت، تكتشف أنه تم حشرها في الزاوية، بعد تجريدها من أسرار مهمة، كان يجب ألا تقال، لأنها تسيء إلى زملاء عمل أو أزواج، حيث تصرف مكافآت طائلة للضيوف، لكن النتيجة أن الضيف قد يقاد إلى المحاكم ويغرّم أضعاف المكافأة التي حصل عليها، بسبب الإساءة أو القدح والتشهير.
والغريب أن الضيف يجلس في البرنامج مرتبكاً يرد على سيل من الأسئلة الشخصية، ولا أدري ما الذي يجبره على ذلك، فبعد أن يحتفي المقدم بالضيف ويشيد بتاريخه الفني أو الإعلامي تنهال على رأسه اتهامات لا تنتهي، ليخرج من الحلقة ملطخاً بالشائعات والسقطات والاتهامات.
حلقات تركز على الخيانات والغدر والمكائد والمصائب، وتسيل فيها دموع الضيوف،فيقدم الصياد للضيف الضحية منديلاً ليمسح دموعه وكأنه يحاول أن يقول للمشاهد إنه إنسان مهذب ومتعاطف!!!
ضيوف مساكين وإعلاميون صيادون يتلذذون في تعذيب الضحية، وكلما أوغلت في ضعفها يتمادى المقدم ويبالغ في توجيه الركلات والإهانات والدحرجات، فيسيل المكياج وتتنافر العروق وتتنفخ الأوداج، وتسود الاتهامات وتضيع الهيبة وفي النهاية ترتسم الإبتسامة عندما يقترب موعد قبض "الشيك" المكتوب بكلام وأرقام "البهدلات".
والسؤال ماذا يستفيد المشاهد في المحصلة النهائية؟
الحصيلة سماع مزيد من الفضائح التي تضاف إلى فضائح يسمعها يومياً في العمل والشارع والمقهى والبيت لتصبح حياته وكأنها سلسلة لا تنتهي من القصص الفضائحية.
وما الذي يحبر فنان كبير، لحن لكبار المطربين، أن يُقبل بحوار يقتصر على زيجاته المتكررة، وأن يجر للحديث عن خصوصية حياته الاجتماعية والأسرية، بدل أن يضع تجاربه الفنية الغنية في خدمة المشهد الموسيقي والثقافي.
كان يجب أن يقف هذا الفنان الكبير، ويعلن أنني متخصص في الارتقاء بالذائقة الفنية للمواطن العربي، ويرفض الانحدار إلى تفاهات لا تليق بالكبار.
في المقابل ما الذي يجبر فنانة رصيدها أكثر من مائة وخمسين فيلماً وجوائز عربية وعالمية لتجلس مكسورة ضعيفة أمام مقدم برامج فارغ لم يقرأ كتاباً ثقافياً في حياته، وكل ما يفعله هو التصيد في المقاهي والحانات وعلب الليل بحثاً عن أسرار وفضائح!!
هل هو المال؟ وإذا كان المال فإن ما تحققه هذه الفنانة في فيلم واحد يساوي كل ما يصرف على حلقات البرنامج الذي استضيفت فيه؟ وهل هو لإرضاء معد أو إدارة شبكة إعلامية؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو دور المستشارين الإعلاميين والفنيين للفنانين الكبار؟!
أسئلة كثيرة يمكن أثارتها هنا، لكن السؤال الكبير، إلى أين تجرنا مثل هذا البرامج وإلى أي منحدر ثقافي نتدحرج في هذا العالم العربي الذي تتقاذفه كل مؤامرات الدنيا؟!
وككاتب وإعلامي فلسطيني أعمل في هذا المجال منذ بضعة عقود أدعو كل الفنانين والمثقفين العرب إلى مقاطعة برامج الفضائح، مهما كاتب مبررات المشاركة فيها، فالفنان هو مرآة شعبه، وحين يتبوأ مكانته فإنه لا يمثل نفسه فقط، بل يمثل مجتمعاً بأسره. وفي التاريخ المعاصر كان الفنانون الكبار عندما يقررون المشاركة في برنامج إذاعي أو تلفزي – يسأل الواحد منهم نفسه:- (ماذا سأفيد الجمهور وأي جديد معرفي سأقدمه؟) ومن يتشكك فيما أقول عليه أن يعود لـ "يوتيوب" ويتابع حوارات قديمة موثقة لكل من طه حسين والعقاد وعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ويوسف إدريس وحنا مينه ونجيب محفوظ وإدوارد سعيد ومحمود درويش والماغوط وكمال الطويل وحتى الراقصات وأنا لا أقلل من شأنهن، فقد كن يتحدثن في مقابلاتهن عن متابعتهن للشأن العام، فتحية كريوكا كانت تقود مظاهرات واعتصامات الفنانين المطلبية والسياسية.
لا شأن لي كمشاهد بمتابعة مشاكل فنانة مع أزواجها العشرة أو العشرين، ولماذا طلقت فلاناً ولماذا تزوجت فلاناً زواجاً عرفياً، أو كيف ضبطته مع عشيقته أو كيف قد فاجأها وهي في سهرة حمراء.
الفنان الملتزم الواعي مطالب بالتوعية والحديث في الفن والتنمية والسياسة والأخلاق والذوق، في محاولة للحد من التقهقر والانحطاط الثقافي الذي بات يجتاح بلادنا ويهدد الكتاب والفيلم واللوحة التشكيلية والمسرحية.