نشر بتاريخ: 23/03/2018 ( آخر تحديث: 23/03/2018 الساعة: 12:10 )
الكاتب: مهند الصباح
مرّ الإنسان عبر تاريخه بكثير من المراحل المختلفة، التي قادته إلى ما يعُرف بعصر ما بعد الحداثة، والمعتمد على التطوّر العلمي والتكنولوجي الهائل، فكان لزاما عليه ونتيجة لهذا التطور العلمي أن يطوّر معه مفهوم الذات والسعي وراء تحقيقها، بشكل يحقق التوازن ما بين المنتج لهذا التطور، والفعل المنعكس له في شتى مناحي حياة الإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يتقدم في العلم ما لم يتفتح فكره وينضج وعيه لذاته؛ كي يكون قادرا على الاستمرار في الإبداع، لهذا نشأ وفي مراحل مبكرة علم النفس الصناعي، ولاحقا ظهر علم التنميّة البشريّة والعديد من العلوم الإنسانيّة التي تٌعنى بالفرد والجماعة. يختلف كثير من الناس حول مفهوم القناعة والرضا والطموح، وإذا ما بحثنا قليلا عن المؤثرات التي تؤثر في بلورة شخصيّة الإنسان العربي فإننا نجد منبع هذا الاختلاف يعود إلى منشئين:
الأول: هو الفهم الخاطئ والمجتزأ للدين، حيث أنّ العديد من القاعدين عن عمارة الأرض يتسترون خلف ستار " الرضا"، ولم يدركوا تماما المعنى الحقيقي للرضا، ولم يدركوا حقيقة وجودهم على البسيطة، فنراهم ينشغلون بالأمور الدينيّة دون الاحتياجات الدنيويّة، زاهدين وصوفيين في حياتهم، وقد نسوا أيضا قول الله تعالى في سورة الأنبياء 105﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ الفهم الخاطئ للدين في ناحيّة الرضا، جعلنا نتذيّل للحضارات الإنسانية ولا نضيف عليها شيئا، بل على العكس ننتقدها وننعتها بالكفر ونحن نعتاش على انتاجهم العلمي والصناعي! فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. فهم كهذا للرضا يجعل من الإنسان العربي غير ذي طموح نحو التطور الفردي والجماعي، مما ينعكس سلبا على دوره الأممي ويجعله أيضا إنسانا متلقي يتأثر بالأحداث ولا يؤثر فيها.
وأمّا السبب الثاني للفهم المخلوط والخاطئ بين القناعة والرضا والطموح فهو عائد إلى التنشئة الاجتماعيّة، تقول النظريّة السلوكيّة ( Behavioral Theories ) لصاحبها كروبلي(1967) أنّ الاستجابات المبدعة تعتمد على نوع العزيز المتلقى، أي أنّ الفرد لديه مقدرة كبيرة على استجابة مبدعة في حال كان التعزيز داعما وملائما. وهنا إشارة للدور الذي يلعبه الآباء والمعلمون في خلق روح المثابرة والطموح لدى الأطفال، بينما نشاهد كثيرا من الآباء والأمهات ونتيجة لفقر الحال والعوز يزرعون في أبنائهم مقولة " القناعة كنز لا يفنى"؛ حتى لا ينظر أبناؤهم لما يحوزه غيرهم من الأطفال؛ فيجعلون من أطفالهم على مرّ السنين أناسا حاقدين على نجاحات أقرانهم، وخاملين غير منتجين، وينتزعون منهم الثقّة والرغبّة في التطوّر والسعي وراء أحلامهم – إن وجدت- ، فنراهم يكبرون على الاستهلاك لما هو متاح ويتسترون وراء " الرضا والقناعة " ولكنهم في حقيقة الأمر كسالى أو خائفون من كل ما هو جديد قد يطرأ، ويغير مسار حياتهم الرتيب، ولا يجرؤون على التغيير ولو بجزئية بسيطة، هذه التنشئة ليست فقط ذات أبعاد سلبيّة على الفرد، وإنّما أيضا على المجتمع ككل، وحتى على السياسّة والاقتصاد وبالتالي سلب إرادة الشّعب كحالة ذات خصائص يتشارك بها أبناؤه كافة، مما يكرّس مفهوم العبوديّة سواء للحاكم أو للظرف المُعاش!
ولمعرفة ماهيّة الرضا يجب أولا التعرّف على أنواع ومراحل القناعة.
المرحلة الأولى للقناعة: هي القناعة المبكّرة وهي التي تتأتّى نتيجة التجربة والبرهان فيتفق العقل والحس معا، كاقتناع المرء بالماء الساخن بعد لمسه وتحسسه، وهذه قناعة لا تحتاج إلى إعادة تجربة كي تثبت العكس، فالماء الساخن يبقى ساخنا حتى يبرد تحت أي ظرف.
المرحلة الثانيّة للقناعة: هي القناعة المتأخرة، وهي التي تتأتّى بعد صراع طويل ما بين العقل والهوى، العقل يدفع بقوّة نحو القناعة بعدم الجدوى بالاستمرار في التجربة، بينما النفس تعاكسه في ذلك، فيغلب العقل على الهوى بعد أمد من الزمن. وأبرز مثال عليها هو حب أمرئ القيس أو جميل بثينة والمعيدي. إلا أنّ الصراع يخفت ولا ينتهي.
المرحلة الثالثّة للقناعة: هي القناعة التي لا تأتي إلا بتحقيق الهدف، وهنا صراع بين الفرد بعقله وهواه وبين المحيط من حوله. هو يؤمن بإمكانيّة تحقيق المراد، فيبدّل تارة بالأسلوب وتارة أخرى بالأدوات، ويستخلص النتائج ويراكم عليها ليتوّج ذلك بإنجاز يريح قلبه وعقله، ويحفّزه نحو تحد جديد، بينما من هم حوله يثبطونه لثنيّه عن الهدف. وفي هذه الحالة يزداد الصّراع ضراوة، بحيث يسعى كل طرف لإثبات صحّة طرحه وممارساته سواء بالدليل أو بالتفنيد. إلا أنّ الأمور بهذه الحالة تقاس بالنتائج وحدها؛ لتبيان من كان على الصّواب ومن كان على الخطأ. ويندرج تحت هذا التصنيف، طرق النضال بأشكاله كافة، وتحقيق الذات عمليا، ولنا في توماس أديسون العالم الأمريكي مخترع المصباح الكهربائي عام 1879 خير مثال، حيث تجاوزت محاولات اختراعه للمصباح ال 900 محاولة، لا وبل قاده هذا الاختراع نحو اختراعات كان لها الأثر الأكبر في التقدم الصناعي، مثل جهاز توليد البنزين وتلغراف لاسلكي والبطاريّة الحافظة للطّاقة.
الرضا هو أن تحاول ثم تحاول حتى تستنفذ جميع الطرق والوسائل في سيبل تحقيق حلمك سواء العلمي أو المهني أو العاطفي، وحينئذ فقط يمكنك الشعور بالرضا بعد أن تقتنع بمحاولاتك وتستنفذها، وعزاؤك أن تقول " حاولت ولم أنجح " المهم هي المحاولة مع الإصرار وعدم اليأس. وقالوا قديما " القناعة كنز لا يفنى "، وهل الوصول إلى الرضا بهذا المقام بناء على ما قاله السلف تعني فناء الإنسان بعد استسلامه للأمر الواقع؟ أم أنّ القناعة بمُحال استدام الحال والقبول به يدعو إلى التمرد عليه سعيا لواقع أجمل تُعتبر ضربا من عدم الرضا والفسوق؟ وهل الوصول إلى القناعة والرضا بما لديك سواء كان سلبا أم إيجابا يؤدي إلى التوافق مع الذات والتصالح معها في كثير من الأحيان، مما يقلل من حدّة الصراع الداخلي الدائر بين ما تريد وبين ما تستطيع ضمن الممكن والمتاح؟
2018/03/20
[email protected]mumuhfffpifmm