نشر بتاريخ: 25/03/2018 ( آخر تحديث: 25/03/2018 الساعة: 17:50 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
أصبح من المألوف أن ترى في بعض مدننا أو قرانا، جرافات تزيل بنايات قديمة بل ضاربة الجذور في القدم، وتسويها بالأرض تهيئةً لإقامة بناية جديدة ذات طابع تجاري، لاقتناص فرصة "الخلو"، أو بيع الشقق من خلال القروض البنكية التي وضعت نسبة لا بأس بها من شعبنا في دائرة "المدين"، حيث يركض الموظف في النهار والليل من أجل تسديد القسط الشهري، خوفاً من أن يتم الحجز على شقته التي دفع عليها دم قلبه وحرق من أجلها أعصابه وأرّق أفراد أسرته.
عمارات أسمنتية أشبه بالعلب تنتصب هنا وهناك وفي فوضى مخيفة، ضربت الجمال في بلادنا وأطاحت بالبنايات القديمة بهندستها المعمارية وعراقتها، والأنكى من ذلك أن الأشجار القديمة المحيطة بالبنايات التراثية "تذبح" في مجزرة تحضير المكان ليتلاءم مع مشاريع البناء الجديدة.
والمدينة التي تزيل قديمها المعماري في رأيي كأنها تصبح بلا ذاكرة وبلا ماض أي كأنها مدينة ولدت للتو بمعزل عن سياق تاريخي وسيرورة وصيرورة الزمان والحركة.
وفي بعض المدن أزيلت حارات قديمة كانت تشكل أهم معالم المدينة، فذهبت المحال التجارية العريقة وطارت الأبواب والشبابيك ذات الأقواس، لترتفع مكانها بنايات شاهقة بمعالم أخرى مختلفة.
نحن لسنا ضد الحداثة، بل نتحمس لها، لكن المطلوب حداثة تعتمد التخطيط وتستثمر المساحات غير المأهولات وتتمدد خارج المدن، ولا تدمر العراقة (الذاكرة)، فكل المدن الأوروبية قد سابقت الزمن عمراناً وحداثة، دون أن تمس بالقديم العريق، وإنما تخضع البنايات القديمة لرعاية البلديات، حيث تقوم بترميمها بشكل دوري وتحرص على إبقائها بنفس هندستها المعمارية القديمة، لأن كل مدينة تفخر وتزهو بتاريخها وسياقها الزمني، فلماذا نقطع نحن سياق مدننا التاريخي؟!
هل نستطيع أن نتصور القدس بدون حاراتها وأسواقها القديمة، وهل تقنعنا زياراتنا لنابلس إذا لم نتجوّل في أسواقها العريقة، وهل يمكن لأحد أن يتصور الخليل بمعزل عن قديمها؟ وهذا ينسحب أيضاً على بيت لحم، حيث نرى الزوار الأجانب يتجولون في أسواقها القديمة ويلتقطون الصور، وكأنهم يلتقطون صوراً لمراحل تاريخية ظلت متشبثة بزمانها ومكانها. فلماذا إذن أصبحت مدن أخرى بلا قديم أو في طريقها للانقضاض على قديمها والانتهاء منه، وهي في حالة إنفعال مجنون مع الحديث والحداثة.
وما ينطبق على المدن ينطبق على قرى وبلدات فلسطينية، فالأحواش القديمة أصبحت مرتعاً للأفاعي ولقذف القاذورات فيما تساقطت أسقف البنايات، وتحولت الأحواش من مظهر معماري تاريخي إلى كوم من الحجارة والأوساخ والقاذورات، مع أن بعض المجالس القروية قد نجحت في ترميم عدد من الأحواش وتحويلها إلى مركز حيوي يستقطب الزائرين وتقام فيه الأنشطة والفعاليات.
وللمناسبة، ما زالت الفرصة مواتية لترميم بعض الأحواش في قرى وبلدات فلسطينية أخرى بجهود ذاتية ومؤسساتية، لجعلها مركزاً حيوياً، حيث يمكن تحويل بعض البنايات منها إلى مطاعم وأندية ومراكز ثقافية ومنتديات للشباب وقاعات لعرض التراث، فالبنايات القديمة هي جزء من تراثنا وقصتنا على هذه الأرض، لا سيما وأن تراثنا يتعرض منذ عقود لعملية استهداف ممنهجة لطمس موروثنا الثقافي بتجسيداته المادية والمعنوية، لكي نصبح بلا ماض ولا جذور، حتى يسهل على المحتل تمرير روايته وتسويقها في محاولة لفرضها كرواية وحيدة، لأهداف سياسية واقتصادية هي نتاج آيديولوجيا استعمارية. وفي هذا الإطار لا بد من تدخل واعٍ للتصدي لعملية الدفاع عن القديم التراثي، ضمن رؤية متكاملة تتشكل من حلقات ثقافية وتربوية وأخلاقية ومعمارية، ونقصد هنا وزارة التربية والتعليم العالي ووزارة السياحة ووزارة الثقافة ونقابة المهندسين وكليات السياحة في الجامعات والمؤسسات التي تعنى بالموروث الثقافي الفلسطينية والمراكز البحثية المتخصصة.
إن ترك الأمور هكذا وبلا خطة ودون اكتراث من شأنه أن يضيّع منا كنزاً عمرانياً تراثياً فنياً كبيراً، وفي ذلك إسهام ذاتي في ضرب ذاكرتنا ومسح مكوّن أساسي فيها، وهو المكوّن العمراني الحضاري القديم، ولعل هذا المقال الصرخة يكون موجهاً بالدرجة الأولى للبلديات والمجالس القروية لنعتبر ونبارد قبل أن يفوت الأوان.