نشر بتاريخ: 07/04/2018 ( آخر تحديث: 07/04/2018 الساعة: 12:35 )
الكاتب: رائد محمد الدبعي
المقدرة على الحياة في غزة خلال العقد المنصرم بحد ذاته فعل خارق للطبيعة، والمقدرة على الإبتسام في ظل تراكم كل مقومات الإحباط، واليأس في غزة هو فعل استثنائي، ومحاولة اختطاف لحظات فرح من أنياب المحتلين، أو التجرؤ بالإجهار بحق أطفال غزة بامتلاك حياة كالحياة هو اختراق لكل الحدود، واجتراح لمعجزة تكاد تلامس معجزات المسيح عليه السلام، فغزة التي تتنفس خلال السنوات العشر الماضية، حصارا، ووجعا، وظلما، وموتا، ونقصا بالدواء، والمواد الغذائية، وحليب الأطفال، ويطوق عنقها القذائف، والحصار، والدم، والأشلاء، وتلوث المياه، قررت أن تنتفض اليوم في وجه فاشيي القرن الحادي والعشرين، وأن تعلن أحقيتها بالحياة، وقدرتها على الإنتصار، وإعادة الزرقة لسمائها، والنقاء لبحرها، والحرية والكرامة والمستقبل لأبنائها.
جماهير شعبنا في غزة أسقطوا كل المسلمات الكلاسيكية الموروثة منذ عصر السلاطين، وأثبتوا أن الفلسطيني، وفي أوج الجوع لا يستجدي خبزا، فحياته ليست مخبزا لا يعرف سوى رائحة الطحين، بل هي الحرية التي تتفجر من بين أناملها رائحة البنفسج، والياسمين، وتنبعث من خصال شعرها خيوط الشمس، غزة أعلنت أنها راية متعبة لكنها خفاقة، وسفينة مرهقة، لا تحيد عن درب العودة للوطن المشتهى، في غزة، رأينا فلسطين في جفون الصبايا، وفي صدور الشهداء النازفين حرية ونصرا، غزة اليوم ترسم وجهها، رافضة كل عمليات التجميل، واللوحات الزيتية للرسامين، وترفض أن يكون وجعها لوحة فنية في أحد المتاحف الكبرى، غزة اليوم تفتح دفاترها القديمة، وتعيد ذاكرة البدايات، وتنتفض في وجه الطاعون، غزة اليوم، تقول لا أحد يمتلك فمي، ولا صوتي، ولا حنجرتي، ولا دمي، أكثر مني، غزة اليوم تكسر كل القوالب، والمسلمات، وتعلن تمردها على كل النظريات الإجتماعية، وتعلن نظريتها الجديدة " أن يصنع الوجع ثورة ليست بمعجزة، المعجزة أن لا يصنعها "، اليوم غزة ونيسان يشبهان بعضهما كثيرا، فكلاهما يثوران على الموت، ويتجددان، ويخلعان أثوابهما القديمة، ويبدءان مرحلة التغيرات الكبرى، فالجمال قدر نيسان، والحرية قدر غزة.
غزة اليوم تحرج الضمير العالمي، وتضع العالم أجمع أمام تحد أخلاقي جديد، فها هم مئات الاَلاف من المواطنين، يسطرون نموذجا في المقاومة السلمية الحضارية، دون طلقة واحدة، ويصرخون بملىء الصوت: حرية، عودة، كرامة إنسانية، فيقابلون بالنار، والرصاص، إلا أن صوتهم، قوبل بقلوب صماء، ونفاق دولي غير مسبوق، فما يسطره أبناء شعبنا في غزة اليوم، لا يقل عما سطره شباب مصر، واليمن، وسوريا، وليبيا قبل سبعة أعوام، إلا أن رائحة النفط، والغاز، والدولار، إنتصرت على وجع الغزيين، وحناجرهم الصارخة .
من حق غزة أن تلعن الظلام، ومن حق أهلنا فيها أن يخرجوا الوجع من تحت وسائدهم ويطلقوه في البراري، ومن حق غزة أن تمتهن كل فنون الجنون، واللامعقول، من أجل الوصول إلى الحرية، والكرامة، فليس سوى الجنون قادر على التحرر من صمغ مهادنة الواقع، ومن قناع الشمع الذي ألبسه لها المحتلين، من حق غزة أن ترفض الإنصياع والركوع أمام كل محاولات قص إرادتها، فكما يرفض الشاعر قص لسانه، والعصفور قص حنجرته، ترفض غزة قص عنفوانها أيضا .
الفلسطيني في غزة يعشق الحياة، ويعلم جيدا أهمية الحفاظ على البيئة، والبحر بالنسبة له نافذة للحياة، ومصدر للرزق، والفلسطيني في غزة يتلمس الجمال بكل جوارحه، ويعشق أطفاله ويحلم أن يعيشوا في ظل بيئة نظيفة غير ملوثة، والحكم عليه من خلف وسائدنا الوثيرة، ومحاولات الإملاء عليه، بما يجب فعله، وما يجب الإبتعاد عنه، إنما هو اجتهاد في غير مكانه، إذ أن تلك الإطارات المشتعلة ما هي إلا وجع سنوات من الحصار، والجوع، والقهر، والموت، ونقص الدواء، والحرية، والكرامة الإنسانية، والفلسطيني في غزة لم يكن ليلجأ إلى " أقصى درجات التطرف اللاعنفي " لولا صمت القبور العالمي تجاه ذبحه اليومي، كما أن علينا أن نتنبه جيدا، أن المحتل الذي جعل من نسبة المياه الصالحة للشرب في قطاع غزة أقل من 4%، والذي ضربها بالفوسفور المحرم، وجعل سمائها ولا زال ساحة لتفريغ أسلحته، وقنابله، على رؤؤس الأطفال، والنساء، والشيوخ، هو الذي يلوث غزة، ويلوث مياهها، أما عن تلويث البيئة، فأي باحث عن الحقيقة، يعلم أن كل إطارات غزة، لا تساوي ما تسببه محطة واحدة لمصنع في الولايات المتحدة الأمريكية، التي يرفض رئيسها التوقيع على اتفاقية باريس للمناخ، كما أنه من غير الموضوعي أو المنطقي أن نحاكم، ونحلل، ونقيم أداء من يعيش حياة كل ما فيها خارج إطار المنطق، والإنساني، والمعقول، بحسابات، المنطق، والعدالة، والمسؤولية المجتمعية، ولنتذكر قول محمود درويش " لأن الزمن في غـزة شيء آخر، لأن الزمن في غـزة ليس عنصرا محايدا إنه لا يدفع الناس إلى برودة التأمل، ولكنه يدفعهم إلى الإنفجار والإرتطام بالحقيقة، الزمن هناك لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة، ولكنه يجعلهم رجالا في أول لقاء مع العدو، ليس الزمن في غـزة استرخاء ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة، لأن القيم في غـزة تختلف، القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدى مقاومته للاحتلال هذه هي المنافسة الوحيدة هناك.
أخيرا، في غزة حيث رضينا أن يكون اللامنطق هو المنطق، علينا أن نتوقف عن مسائلة الناس بمنطق المنطق .