نشر بتاريخ: 09/04/2018 ( آخر تحديث: 09/04/2018 الساعة: 19:17 )
الكاتب: وسيم جابر الشنطي
محامي وباحث قانوني
تعدّ المحكمة الجنائية الدولية إحدى أهم الآليات التي صاغتها الإرادة الدولية لقمع انتهاكات أحكام القانون الإنساني، وما أقر المجتمع الدولي ميثاق المحكمة إلا بعدما اتضح له عجز الأليات المتاحة في اتفاقيات جنيف عن ردع ومعاقبة المتهمين بارتكاب جرائم دولية.
ومنذ دخول النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ في 1/7/2002م وحتى تاريخ اليوم، تلقت المحكمة ثماني إحالات مطروحة أمامها حتى الآن، جميعها لدول إفريقية، ما دفع دولة جنوب أفريقيا إلى الانسحاب من ميثاق المحكمة، ويقوم مكتب المدعي العام بأنشطة تتعلق بتحقيقات أولية في 10 حالات من ضمنها الحالة الفلسطينية.
في تاريخ 16 يناير 2015م، أعلن مكتب المدعي العام أنه شَرع في دراسة أولية في الحالة الفلسطينية على أساس الإعلان الصادر بموجب المادة ( 12)من ميثاق روما، وقامت دولة فلسطين بتقديم بلاغها الأول بشكل رسمي إلى المحكمة الجنائية الدولية يوم 25 حزيران 2015م من أجل المساهمة بدعم الدراسة الأولية في الجرائم المرتكبة في أرض دولة فلسطين بما فيها القدس الشرقية منذ 13 حزيران 2014م، وقد تلقى مكتب المدعي العام ما يزيد عن( 98) بلاغا فيما يتعلق بالحالة الفلسطينية، إلا أن المدعي العام للمحكمة -حتى اليوم - لم يفتح تحقيقا في الشكوى الفلسطينية المقدمة، وأشير هنا إلى أن قيام المكتب العام بفتح دراسة أولية لا يعني أن تحقيقًا من المرجح أن يتبعها؛ فمعظم الدراسات الأولية التي أجراها المدعي العام أُغلقت دون فتح تحقيقات, بل إن المدعي العام يفتح دراسةً أولية في كل حالة تُحال إليه, وتتألف مرحلة الدراسة الأولية من تقييم أولي للمعلومات؛ وحل مسائل الاختصاص من خلال تحديد مكان وقوع الجريمة المعنية ونوعها؛ والنظر في مقبولية الوضع والحالات المحددة .
وعلى أي حال، فإن ملاحقة الإحتلال الإسرائيلي أمام المحكمة الجنائية الدولية ليس بالأمر السهل والهين كما يصوره الحقوقيين والساسة، وأؤكد أننا أمام معركة قانونية معقدة، تحتاج لقدرات قانونية عالية المستوى إضافة إلى ميزانية مالية كبيرة ، ويواجهنا كفلسطينيين العديد من المعيقات في هذه المعركة من أهمها :
1- ضغوط الدول الكبرى لمنع الفلسطينين من إحالة أي ملف أمام المحكمة الجنائية الدولية، والتي أثرت بشكل واضح على السلطة الفلسطينية، وقيدتها حتى هذه اللحظة من استخدام وسيلة الإحالة المباشرة أمام المحكمة، فحتى ننجح يجب أن نتجاهل الضغوط الموجودة؛ لأن حقوق الضحايا لا يمكن إخضاعها بأي حال من الأحوال لأي ضغط خارجي.
2- اعتبار اختصاص المحكمة مكملاً للاختصاصات القضائية الجنائية الوطنية، يعطي "إسرائيل" فرصة للتحايل على القانون، من خلال الإعلان أنها سوف تقدم بعض المتهمين إلى لجان تحقيق إسرائيلية"، تمهيداً لتقديمهم إلى محكمة جنائية إسرائيلية, "ولإسرائيل" سوابق قانونية عديدة في هذا المجال ، فقد قدمت بعض جنودها وضباطها إلى محاكم صورية وحكمت عليهم أحكاماً شكلية.
3- من المعيقات أن فتح التحقيق من مكتب المدعي العام يقتضي أن ينظر في مقبولية الوضع بموجب النظام الأساسي للمحكمة والسياسات والممارسات التي ينتهجها المكتب, ويمكن للمتهم أو الدولة التي لها اختصاص إقليمي في التحقيق أو المحاكمة، أن تقدم طلباً بعدم مقبولية الدعوى, والدولة التي تدعي بأن الدعوى من اختصاصها تدفع في طلبها بأنها تحقق أو تباشر المقاضاة في الدعوى أو لكونها حققت فعلاً المقاضاة وباشرت فيها, ولدى تقديم مثل هذا الطعن فإنه يُحال إلى دائرة ما قبل المحاكمة للنظر والبت فيه، ثم يحال الطعن إلى الدائرة الابتدائية، ويجوز لمن قدم الطلب استئناف القرارات الصادرة والمتعلقة بالاختصاص أو المقبولية إلى دائرة الاستئناف وفقاً للمادة (82) من النظام الأساسي، وبناء عليه بإمكان إسرائيل لإعاقة عملية المحاكمة مستقبلا أن تقدم طلبا للطعن بمقبولية الدعوى .
4- قرار إسرائيل بالامتناع عن التعاون مع المحكمة يشكل عقبةً جوهريةً إضافية تعرقل قدرة المدعي العام على إجراء التحقيقات ، ومن الممكن أن لا يعرقل إحجام إسرائيل عن التعاون الحالات الجلية والواضحة مثل أنشطة إسرائيل الاستيطانية, ولكنه سوف يعرقل قدرة المدعي العام على التحقيق في الحالات الأكثر تعقيدًا المتعلقة بالأعمال العدائية التي نفذتها إسرائيل في قطاع غزة، فإذا امتنعت إسرائيل عن عرض روايتها للأحداث، قد يستشعر المدعي العام عدم القدرة على إطلاق وإتمام تحقيق جنائي يزعم وقوع انتهاكات.
5- من أبرز المعيقات ما ورد في المادة (16) من النظام الأساسي للمحكمة؛ إذ أعطت هذه المادة لمجلس الأمن الحق في أن يطلب من المحكمة، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بأن "لا تبدأ في المحاكمة أو أن لا تواصل المضي في التحقيق أو المقاضاة لمدة اثني عشر شهراً", كما يجوز للمجلس تجديد هذا الطلب بالشروط نفسها، وبناءً عليه، لا تستطيع المحكمة السير في أيّ شكوى أو مقاضاة، بل تجميد ذلك لفترة (12) شهراً قابلة للتجديد لمدة مساوية من قبل مجلس الأمن، ومما لا شك فيه فإن الدول العظمى في مجلس الأمن منحازة إلى إسرائيل, وبالتالي ستعمل على تعطيل المحاكمة من خلال طلب التأجيل.
وأمام كل هذه المعيقات التي من شأنها أن تعيق محاكمة الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية، وبما أن الطريق أمام المحكمة يتوقع أن يكون طويلاً ومضطرباً، فإنني أوصي بما يلي للتغلب على هذه المعيقات:
1- من المهم أن تقوم السلطة الفلسطينية بكسب دعم جميع الدول الصديقة لمساندتها أمام المحكمة في المعركة القانونية، ومن الضروري أن تقوم السلطة بإرسال بعثات تعليمية فلسطينية للتخصص في مجال القانون الجنائي الدولي، نظرا لقلة الخبراء الفلسطينين في هذا المجال .
2- ضرورة توثيق الانتهاكات والجرائم بالطرق والمعايير المعتمدة من قبل المحكمة، وتجهيز الملفات القانونية المدعمة بالأدلة والوثائق، والاستعانة في ذلك بخبراء دوليين على معرفة بعمل المحكمة.
3- رسم سيناريوهات لكل قضية محالة للمحكمة، ووضع الخطط الازمة لإنجاح جميع القضايا.
4- ينبغي على المنظمات الفلسطينية أن تستمر في المتابعة مع المحكمة ومراقبة عمل مكتب المدعي العام، والتعامل مع المحكمة كهيئة غير مسيسة.
5- ضرورة تكثيف الجهود الفلسطينية، خاصة جهود مؤسسات حقوق الإنسان ، ومن الجيد توحيد هذه الجهود حتى لا تضيع سدى.
ختاماً ينبغي المعرفة أن معركتنا القانونية طويلة جدا ، ولا يجوز بأي حال من الأحوال خسرانها، وعلى الرغم من أن رحلة فلسطين مع المحكمة الجنائية الدولية طويلة، إلا أن الأمل موجود بأن تكون خاتمة هذه الرحلة عادلة، مع الأخذ في الاعتبار أهمية عدم المبالغة لدور المحكمة في تحقيق العدالة للفلسطينين، وعلى الحقوقيين والساسة التوقف عن تأميل الشعب الفلسطيني بنتائج هذه المعركة التي قد تأخذ أعواماً طويلة جداً.