نشر بتاريخ: 12/05/2018 ( آخر تحديث: 12/05/2018 الساعة: 21:19 )
الكاتب: د. أحمد رفيق عوض
هذه مقالة كتبت على خلفية نشاط أكاديمي قام به بعض طلبتي في الماجستير تم فيه استعراض الفروق بين المتحدثين والناطقين الرسميين لعدد من دول المنطقة بما فيها المتحدث الرسمي باسم حكومة الوفاق برئاسة الدكتور رامي الحمد الله.
وقد شملت المقارنة اللغة المستخدمة وطريقة السرد ونوع المفردات ودلالة المصطلحات والقدرة على ابتكارات ذات دلالة، هذا بالاضافة الى لغة الجسد والخلفيات الشخصية والاطلالة الاعلامية، ولكن هذه المقارنة خلت من الاشارة الى الاوزان النوعية للأنظمة أو قوة تأثيرها أو تحالفاتها أو حتى اتجاهاتها، بل تم التركيز على "الاداة الاعلامية" باعتبارها المعبر والحامل والممثل لكل ذلك.
اذ ان طريقة ادائنا اللغوي يعكس بالضرورة مواقعنا وقوتنا ومرجعياتنا واحلامنا وحتى أوهامنا، وعلى الرغم من قدرة السرد على الايهام والتضليل ومحاولة الاخضاع والاقناع، الا ان من السهل تفكيك كل نص الى عوامله الأولية لنكتشف عيوبه وثقوبه.
من هذا المنطلق، حاولنا تفكيك بيانات المتحدث الرسمي باسم حكومة الوفاق الوطني الاستاذ يوسف المحمود من خلال عدد من بياناته بطريقة عشوائية.
أولاً: لغة الاستاذ يوسف المحمود لغة احتمالية، تفتح الباب على الخيارات والبدائل، وهي لغة مضارعة عامة عادة، ما لم يتعلق الأمر بالثوابت الفلسطينية فهي لغة حادة وحاسمة وتغلق كل الاحتمالات، وتبدو اللغة عندئذ لغة مطلقية بافعال ماضية مستقبلية، اي ان لغة المتحدث الرسمي لها وجهان متقابلان، سميتريان بطريقة حادة وملفتة للنظر، فهي تطل من جهة على الاحتمال ومن جهة اخرى تغلق الباب أمام المسلمات والبديهيات.
ربما تعكس هذه اللغة أزمة الحركة الوطنية التي فرض عليها ان تجمع بين النسبي والمطلق في آن واحد، وربما تعكس ازمة الراهن كله، اذ مطلوب من الفلسطيني ان يتفاوض على معظم ما اعتبره يوماً غير قابل للتفاوض.
تبدو لغة المحمود بهذا المستوى باعتبارها نصاً تاريخياً، بالغ الحساسية للهوامش والمحاذير، مرتهناً للواقع راغباً في الغائه، بهذا المفهوم، فإن المحمود ومن خلال مفردة ذات ايحاءات متعددة يجد حلولاً على مستوى اللغة وعلى مستوى الوعي في آن واحد، وبهذا، فإن المحمود الذي يعرف المشكلة فهو يقدم الحل لها ايضاً.
ثانياً: عادة ما يقوم كل نص بالتلاعب بوعي المتلقي او اخضاعه او اقناعه، وذلك من خلال عمليات تغيير الأولويات أو تعديلها أو اغفال بعضها، أو من خلال اعادة ترتيب السرد وتغيير بؤرة الصراع وتبادل المواقع ما بين الجلاد والضحية، هذا عملياً ما يقوم به كل نص من اجل عمليات الايهام والتضليل، ضمن أمور اخرى نضرب صفحاً عن الاشارة اليها، اما بيان المتحدث باسم الحكومة الفلسطينية، فهو غير مضطر الى ذلك كله ما عدا مصطلحه الذي ينحته على قدر المعاناة وطعم الجرح، يعني، فإن الاستاذ المحمود، وبلغة الضحية التي لا تريد الاعتراف بكونها ضحية، فهو يستعير لغة الفارس، وهناك فرق بين لغة الضحية ولغة الفارس، وهي فروق تتعلق بنوع المفردة المستخدمة وحقل الدلالات المتولدة عن ذلك.
المقارنة ذات الدلالة بين اللغة التي يستعملها المحمود وتلك التي يستعملها -أوفيرجندلمان المتحدث باسم رئيس وزراء اسرائيل للاعلام العربي- أو تلك التي تستعملها -نويرت هيذر المتحدثة باسم الخارجية الامريكية-، حيث نكتشف أن المفردة ودلالاتها هي وعي المتحدث بموقع من يمثله.
المحمود الذي يستعير لغة الفارس ليصف وضع الضحية تبدو لغته – رغم جماليتها الفائقة – تمتلك قدراً كبيراً من الدرامية ذات الوقع العالي.
لغة الاستاذ المحمود فيها مقابلات ومواجهات واشتباك على مستوى اللغة ومستوى وعيها، وبهذا فإن المحمود يقدم لنا نصاً اشكالياً قابلاً للدرس والفحص، لأن النص الذي يقدمه بالغ الحساسية، بالغ الاحساس، ويعكس مستويين من التعاطي الحضاري والتاريخي باللحظة السياسية المعيشة.
ثالثاً: تتميز بيانات الاستاذ يوسف المحمود بالقدرة العالية على الابتكارات ذات الدلالات وهي دلالات تتخطى اللحظة التاريخية الى كونها تعبير ثقافي واسع وعميق، الابتكار هنا يخدم مقاصد المحمود في وعيه وفي تعريفه للواقع وفي رغبته لتجاوزه، الابتكار يأتي كمعادل موضوعي للرغبة في تأكيد المأمول والغائب وامتلاكهما، الابتكار يناسب لغة الفرسان من جهة، ويناسب لغة الضحايا من جهة أخرى، فالابتكار في نهاية الأمر مجاز ما، والمجاز يحتمل كل شيء، ولدى المحمود فإن المجاز يخدم ايضاً لغته الاحتمالية التي تبدو وكأنها تصنع تسوية مع الواقع المرعب والفظيع.
مرة أخرى، يبدو نص المحمود نصاً موارباً بالاجبار، نصاً ابتكارياً بالاجبار، ونصاً ذا دلالات لأن الدلالة الواحدة تشبه الانتحار.
وقد يقول قائل أن قوة الابتكار لدى المحمود بسبب شاعريته العالية وشعريته الثرة، فهو في نهاية الامر شاعر معروف، وربما كان ذلك صحيحاً الى حد ما، فالرجل شاعر وحصل على تقدير أوساط ادبية عربية واجنبية، ولكن الأمر – برأيي – لا يتوقف فقط عند خلفية المتحدث بقدر ما تتعلق برغبته في اعادة انتاج الواقع من خلال لغة جديدة ترفع السقف وتؤسس لوعي جديد، لنأخذ هذا المثال العجيب في قوله عن قرار ترامب بنقل السفارة " هذا القرار الذي يشكل أكثر القرارات غرابة في التاريخ البشري: هذا لم يحدث حتى في أشد فانتازيا الأحلام ادهاشاً و عجائبية".
هذا الكلام وان بدا وكانه يأتي من عالم الشعر، الا ان فيه – برايي- موقفاً جديداً ومدهشاً من معطى سياسي واقعي، ان دلالة هذا النص أو مجموع دلالاته هي مواقف سياسية بالغة الدقة والواقعية ايضاً.
رابعاً: يمكن القول ايضاً بكثير من الاصابة في الكلام ان بيانات المحمود فيها هذا النفس الشعري، أو ان شئت هذا النفس الدرامي، الذي يناسب الحال، فالدراما هي الصراع وهي الحركة وهي المأساة وهي الفجائعية، هي الموت والابطال والضحايا والحق والباطل، وتتميز لغة المحمود في بياناته بهذه الشعرية الدرامية، فهو يصف الواقع "بالمشهد المنحدر" واسرائيل "تستغل المقدس للتغطية على فعلها المدنس" وهي لذلك تقوم بعملية "تلفيق ملعون" وحركة حماس تمارس "صناعة التبرير وغسل النفس الصناعي والمسرحي".
نعم، بيانات المحمود لغة درامية، ولهذا تبدو ملفتة للنظر، فهي ليست لغة حكومية معتادة، وليست اللغة الرسمية التي تلتزم بالقوالب والاوامر، هي لغة شاعر يريد أن يقول نصاً "حكومياً" فيه ذلك النسخ الحار والمتدفق الذي يبدو وكأن لغة "شعبية" ترتدي زياً حكومياً.
خامساً: لغة المحمود في بياناته كما في كل النصوص، تعمل على تقديم وتأخير الاحداث، على النفي والالغاء، على الاظهار والتهميش، على التعتيم والاضاءة، وتستخدم حقولاً دلالية مختلفة ومتعددة، كما في كل النصوص التي تهدف الى اقناع القارئ أو المتلقي ومن ثم اخضاعه لمنطقها، ولكن الجديد والمميز في هذه اللغة انها لغة هوامش ضيقة، وحسابات دقيقة، وتسويات مؤلمة ومريرة، ولكنها رغم كل ذلك، وجدت طريقها واسلوبها، هي لغة كواقعها وكظرفها التاريخي، ظاهرها غير باطنها، وذات مستويات متعددة، وذات دلالات، وفيها اشتباكات واشتعالات، حيث الضحية تراوغ جلادها، وحيث جلادها يتقافز بين السطور، لغة المحمود في بياناته، تعمل على تجاوز الواقع من خلال الكلام عن المستقبل.