نشر بتاريخ: 19/05/2018 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:10 )
الكاتب: ناصر العيسى
خلال الاشهر القليلة الماضية وتحديدا منذ الثلاثين من اذار من هذا العام استشهد 15 طفل فلسطيني في قطاع غزة، فيما اصيب نحو الف غيرهم وذلك تزامنا مع انطلاق فعاليات ومسيرات العودة بمناسبة الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية حيث هجر الفلسطينيون قسرا من مدنهم وقراهم في عام 1948.
في الرابع عشر من ايار وقبل يوم واحد من ذكرى النكبة، قررت الولايات المتحدة الامريكية افتتاح سفارتها في القدس المحتلة وأقامت احتفالا لهذه المناسبة، غير بعيدا عن القدس زحف عشرات آلاف الفلسطينيين في قطاع غزة باتجاه السياج الذي يفصل القطاع عن الاراضي داخل مناطق ال 48 وقاموا بمحاولة اجتياز السياج ورشقوا القوات الاسرائيلية هناك بالحجارة والقنابل الحارقة وأشعلوا مئات الاطارات هناك.
قام الجيش الاسرائيلي وقناصته بإطلاق النار بكثافة وعشوائية على هذه الحشود فقتل خلال ساعات 62 شخصا بينهم ثمانية اطفال اصغرهم الطفلة ليلى الغندور والبالغة من العمر ثمانية اشهر حيث توفيت بسبب الاطلاق الغزير للغاز المسيل للدموع.
لم يشكل المحتجون الفلسطينيون أي خطر حقيقي على جنود الاحتلال، حيث الغالبية كانت تقف على مسافة بعيده من السياج، وكان من الواضح ان ايدي الجنود كانت رخوة للغاية على الزناد حيث قتل وأصيب عدد كبير من قبل القناصة او من رشقات عشوائية تم اطلاقها على المحتجين، وهو ما يشكل انتهاك صارخ للقانون الدولي الذي يمنع استخدام القوة المميتة إلا كملاذ اخير وعندما يكون هناك تهديد مباشر على الحياة، ناهيك عن ان اسرائيل ملزمة باحترام الحق في الاحتجاج السلمي.
اللافت في هذه الاحتجاجات والمسيرات كان مشاركة آلاف العائلات الفلسطينية كبارا وصغارا، هذا اضافة الى آلاف الاطفال ذكور وإناث الذين تواجدوا منذ اليوم الاول للفعاليات ولكن بشكل اكثر كثافة في الرابع عشر من ايار. وصلوا السياج الفاصل وهم يحملون الماء والغذاء وحليب اطفالهم وألعابهم وأقاموا ما يشبه مخيم انتظار لعبورهم الكبير.
وصلوا الى الجدار وهم يحلمون بان تطأ اقدامهم اراضي اجدادهم وآبائهم التي هجروا منها قسرا، البعض منهم كان مقتنعا ان يوم الرابع عشر من اذار كان يمكن ان يكون يوم العودة الحقيقية والفعلية، لقد سمعنا صرخاتهم وهم يقولون لقد عبروا، وذلك عندما استطاع بعض الشباب تجاوز الجدار حيث وطأت اقدامهم لأول مرة ارض حرموا من الوصول لها.
اعتقد اننا بحاجة الى الترفع عن البحث في التفاصيل، في كيف شارك الاطفال ومن ارسلهم او حرضهم وكيف وصلوا هناك، وهل ينبغي ابعادهم ومنعهم من المشاركة في فعاليات يمكن ان تشكل خطر عليهم. ان نقاشها هو مجرد مضيعة للوقت وابتعاد عن المحور الاساسي الذي ينبغي التركيز عليه وهو ضرورة اتخاذ المجتمع الدولي لإجراءات عاجلة لمحاسبة واعتقال مرتكبي الجرائم بحق الاطفال.
وحتى لا نقع في محرم لوم الضحية والذي طالما حاولنا الابتعاد عنه، فأنني ارى في مشاركة اطفال قطاع غزة في رفض الاحتلال حالة طبيعية افرزتها سنوات طويلة من الظلم والحرمان والفقر والحصار، وهي نتاج للحروب التي شنت على قطاع غزة ونتاج لغياب الامان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والوجودي فلطالما تعرض الاطفال للخطر وهم في داخل منازلهم، مئات البيوت قصفت ودمرت وقتل وشرد الاطفال كنتيجة لذلك ومئات اخرين توفوا بسبب غياب الرعاية الصحية المناسبة وبسبب المرض وعدم قدرتهم على مغادرة قطاع غزة المحاصر برا وبحرا وجوا ومن كافة الاتجاهات، فهم محبوسون في عشوائيات سامة من المولد حتى الممات ومحرومون بشكل ممنهج من كافة حقوقهم، وفق توصيف للمفوض السامي لحقوق الانسان الامير زيد بن رعد الحسين.
لا اعتقد ان خيارات الاطفال في غزة كثيرة، لم يترك لهم الاحتلال الكثير، فلقد عزلهم في مساحة جغرافية صغيرة، جزء كبير يعيش في اسر تحت خط الفقر. اذكر صرخات اب وبكائه على ابنه الذي استشهد حيث مات ابنه جائعا ولم يستطع احضار الطعام له.
لم يختار اطفال قطاع غزة المواجهة بل فرضت عليهم، بالأحرى اين يذهبون فحتى بحرهم اصبح ملوثا، ولا ماء ولا كهرباء هناك ومنذ سنين طويلة لم يلح بالأفق شيئا يمكن ان يعطيهم جرعة من التفاؤل.
يشكل اللاجئين الغالبية في قطاع غزة بما نسبته 68 % من السكان البالغ عددهم مليوني شخص تقريبا، ويشكل الاطفال نحو 50% من مجمل السكان، وبدون استثناء وكغيرهم من الاطفال الفلسطينيون هم مدركون ان ارضهم قد سلبت ومقتنعون ان وجودهم مؤقت في المخيمات، وهم يعتقدون الان اكثر من أي وقت ان فرصة العودة قد اتت وان لهم دور في تحقيق ذلك وبأسرع وقت، ليس هناك حاجة لتحريضهم فهم جزء من الحالة العامة، وقطاع غزة هو مجتمع عالي الكثافة سكانيا ومزدحم جدا ويتأثر سريعا بأي حالة او قرار.
عودة الى المحور الاساسي في حديثنا وهو الاحتلال الإسرائيلي والذي يخنق قطاع ويتحكم بما ومن يدخل او يخرج من قطاع غزة، فالغالبية العظمى من اطفال قطاع غزة لم تغادره مطلقا، جزء منهم عاش ثلاثة حروب على غزة حتى الآن ويدركون تماما ان سبب تعاستهم يكمن في هذا الاحتلال.
بكل بساطة فان مشاركتهم هي سعي منهم نحو حياة أفضل، حياة افضل مما هو الان في قطاع غزة. لا ادري اذا كان الاطفال يدركون جيدا الخطر الذي يواجههم وبأنهم قد يفقدون حياتهم عند كل مواجهة، لكنني بالمقابل اعرف جيدا ان من يطلق النار عليهم يعرف ايضا انهم لم ولن يشكلوا خطرا على احد.نشرت عشرات الصور والفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام ما رأيناه كان صادما وجنود يتسلون في عمليات القتل والتصويب على اناس عزل، هم اختاروا ان يقتلوا الاطفال وان يصوبوا نحوهم دون ان يتعرضوا لأي خطر بالمطلق.
اعتقد ان مسيرات العودة اعطت الاطفال دفعة معنوية وطاقة ايجابية، اجزم انها عبئت اوقات الفراغ الطويلة لديهم وأخرجتهم من حالة الروتين اليومي القاتل، اصبح لديهم هدف محدد، فهل هناك اجمل من التفكير ببيت واسع وأشجار وورود تحيط به.
لن نستطيع ان نمنع الاطفال من المشاركة، ولا ارى ان من حقنا ان نقوم بذلك، اتفق مع كل من يقول انهم يجب ان لا يتواجدوا في المناطق التي تشكل خطرا لكن السؤال يبقى، أي المناطق يمكن ان تكون امنة في قطاع غزة. باختصار لا مكان امن هناك.