نشر بتاريخ: 29/05/2018 ( آخر تحديث: 29/05/2018 الساعة: 11:47 )
الكاتب: هاني المصري
في الأيام الأخيرة، وعلى وقع تأثير مسيرات العودة، تتكاثر الجهود والمبادرات الرامية إلى وقفها مقابل رفع الحصار وهدنة طويلة الأمد. فهل تنجح هذه المحاولات وتقوم "دويلة" غزة أم سيكون نصيبها الفشل كسابقاتها؟
للإجابة عن هذا السؤال نبدأ القصة من البداية:
شرعت إسرائيل منذ ما قبل توقيع "اتفاق أوسلو" في تنفيذ سياسة فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، وذلك بإصدار وتطبيق قرار عسكري احتلالي في العام 1991 يمنع الحركة الحرة ما بين الضفة والقطاع مثلما كان الأمر في السابق، ويشترط وجود تصريح للتنقل، ولم يتغيّر هذا الأمر حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو الذي نص على وجود ممر آمن بين الضفة والقطاع.
هدفت إسرائيل من هذا القرار وغيره تحقيق أهداف عدة، على رأسها قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 1967، التي أصبحت خطرًا زاحفًا على إسرائيل بعد الانتفاضة الأولى التي بدأت في كانون الأول 1987 واستمرت حتى توقيع اتفاق أوسلو في أيلول 1993. وكان من أهداف هذا الاتفاق منع قيام الدولة وليس تحقيقها، بدليل أنه لم ينبس ببنت شفة حولها، في ظل مواصلة إسرائيل لسياسة الفصل، وتعطيل فتح الممر الآمن.
استمرت سياسة الفصل بين الضفة والقطاع وتعمقت من خلال "الانسحاب من غزة أولًا"، ورفض الرئيس الراحل ياسر عرفات هذا "الانسحاب"، ما أدى إلى اتفاق "غزة أريحا أولًا" التي أرادته إسرائيل أولًا وأخيرًا، كما اتضح من خلال طرح شمعون بيرس على عرفات انسحابًا إسرائيليًا من القطاع، واستعدادًا للموافقة على إقامة دولة فلسطينية في غزة، ورفض "أبو عمار" ذلك متمسكًا بالوحدة الإقليمية ما بين الضفة والقطاع.
وفي العام 2004، طرح أرئيل شارون خطة فك الارتباط عن قطاع غزة، التي استهدفت إصابة عصافير عدة بحجر واحد. فمن جهة، تريد إسرائيل التخلص من أكثر منطقة مكتظة بالسكان في العالم، بما يقلل من خطر القنبلة الديمغرافية، ومن المقاومة الفلسطينية المنطلقة من القطاع، بحيث تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء في القطاع من أجل التقدم عشر خطوات إلى الأمام في الضفة.
ومن جهة أخرى، استهدفت إسرائيل بث الفتنة بين الفلسطينيين من خلال عدم تنسيق "الانسحاب الإسرائيلي"مع السلطة، وهذا ساهم ببذر بذور الانقسام الفلسطيني، وقطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية، وعلى أية مبادرة عربية أو دولية لحل الصراع بما لا يناسب إسرائيل، وجعل المبادرة الإسرائيلية اللعبة الوحيدة في المدينة. وتمكن شارون بذلك من تغيير خطة خارطة الطريق بعد أن وضع عليها أربعة عشر تحفظًا قلبتها رأسًا على عقب.
وأدت هذه الخطة إلى تغيير النظام السياسي الفلسطيني من نظام رئاسي إلى نظام مختلط رئاسي برلماني تتوزع فيه السلطات والصلاحيات ما بين الرئيس ورئيس الحكومة، ذلك المنصب الذي استُحدث ومُنح صلاحيات كبيرة في سياق الضغط على الرئيس عرفات لكي يقبل باستئناف المفاوضات الثنائية من دون مرجعية دولية، إذ أصبحت مرجعيتها الوحيدة الأمن الإسرائيلي.
ما سبق وفرّ الأرض الخصبة لوقوع الانقسام، فوَقَعَت حركتا فتح وحماس في الفخ الذي نصبه شارون، الذي قال للشباب المتحمسين من حزب الليكود الرافضين لخطته: "انتبهوا جيدًا لما سأقول: بعد إعادة نشر قواتنا في القطاع ستدب الفوضى، وسينشب اقتتال بين فتح وحماس، وهذا سيرسل رسالة إلى العالم بأن الفلسطينيين غير جديرين بإقامة دولة فلسطينية". وهذا ما حصل بكل أسف وحزن وما زال يحصل.
في هذا السياق، وقع الانقسام، وقدّم طرفا الانقسام خدمة، من دون قصد، ساعدت على نجاح أهداف شارون، من خلال عدم إبداء الاستعداد لدفع ثمن إنهائه.
منذ وقوع الانقسام، يتبادل طرفاه الاتهامات عن الطرف المسؤول عن وقوعه واستمراره وتعمقه أفقيًا وعموديًا، واقترابه رويدًا رويدًا من التحول إلى انفصال، رغم ما يشكله من خسارة صافية وكاملة للفلسطينيين وربح صافٍ وكامل لإسرائيل، بدليل اعتقالها عشرات النواب الفلسطينيين وبعض الوزراء المحسوبين على "حماس" بعد تشكيل إسماعيل هنية للحكومة العاشرة إثر فوز "حماس" بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، كما قاطعت إسرائيل حكومة الوحدة الوطنية التي شكلت بعد اتفاق مكة 2007، في ظل إصرار إسرائيلي على ضرورة التزام "حماس" بشروط اللجنة الرباعية، ووضع السلطة بين اختيارين لا ثالث لهما: إما اختيار العلاقة مع إسرائيل على أساس التزامات أوسلو، أو "حماس".
كان هذا موقف إسرائيل من كل اتفاقات المصالحة، إلى أن لمسنا بعض التغيير بعد مجيء دونالد ترامب وتوليه رئاسة البيت الأبيض، إذ بدا أن واشنطن وتل أبيب رفعتا الفيتو عن المصالحة الفلسطينية، من خلال إعطاء الضوء الأخضر لاتفاق المصالحة الذي رعته مصر في تشرين الأول 2017، وذلك في سياق التحضير لتمرير صفقة ترامب التي تقوم في جوهرها على إقامة كيان فلسطيني في غزة تُلحق به المعازل الآهلة بالسكان في الضفة.
ما جرى في الحقيقة أن حكام واشنطن بموافقة إسرائيلية طلبوا من السلطة بذل كل ما بوسعها لإعادة فرض سيطرتها على القطاع وعزل "حماس"، خشية من أن يؤدي تفاقم الحصار إلى انهيار القطاع وانفجاره، ونشوب الفوضى في ظل عدم وجود بديل فوري عن حكم "حماس". وهذا شيء يختلف جوهريًا عن تحقيق المصالحة التي تقتضي مشاركة من "حماس" وغيرها من الفصائل والفعاليات والقطاعات وليس عزلها، وهذا ساهم في إفشال المحاولة المصرية الأخيرة.
حاولت إسرائيل بعد عدوانها الغاشم الثالث على قطاع غزة في العام 2014 دفع "حماس" إلى قبول شروط اللجنة الرباعية مقابل عقد هدنة طويلة الأمد معها، تتضمن الاعتراف بسلطتها، وإمكانية الموافقة على إقامة "دويلة فلسطينية" في غزة، ولكن "حماس" رغم حرصها البالغ على الحفاظ على سلطتها في القطاع إلا أنها لم توافق على تغيير جلدها بالكامل مقابل مجرد هدنة طويلة الأمد، ما أدى إلى فشل كل المحاولات التي ساهمت فيها أطراف عربية ودولية عدة، من أبرزها توني بلير وقطر، ما أبقى المعادلة التي تحكم القطاع "هدوء مقابل هدوء" وإذا أرادت "حماس" أكثر عليها أن تقدم أكثر.
الجديد حاليًا الذي لم يتبلور نهائيًا بعد باتفاق، أن إسرائيل تبدي مرونة بتغيير شروطها، فلم تعد تطالب "حماس" بالموافقة على شروط الرباعية، أو نزع سلاحها أولًا، إذ تكتفي بتخفيف الحصار أو رفعه مقابل هدنة طويلة الأمد.
يرجع اتجاه الموقف الإسرائيلي للتغير إلى ازدياد مخاطر انهيار القطاع وانفجاره، وازدياد المطالبة الدولية والعربية والأوروبية بتخفيف الحصار، والفصل بين المسارين السياسي والإنساني، وبين الأخير وعودة السلطة، لدرجة الاستعداد لعمل شيء عملي لتحقيق ذلك بموافقة السلطة أو عدمها، إضافة إلى عدم قدرة السلطة على العودة إلى السيطرة على القطاع نظرًا للهوة الشاسعة ما بين شروطها وما تقبله "حماس"، فضلًا عما تشكله مسيرات العودة من إزعاج وخطر راهن ومستقبلي على إسرائيل، كونها مرشحة للاستمرار، واتضاح أن "صفقة ترامب" كما كانت مطروحة في البداية غير ممكنة التحقيق في ظل استمرار الرفض الفلسطيني لها، إلى جانب حاجة إسرائيل إلى تهدئة الجبهة الجنوبية في ظل التوتر الشديد على الجبهة الشمالية بما ينذر باحتمال الحرب.
إذا تبلور الموقف الإسرائيلي في هذا الاتجاه، ووافقت "حماس" على المعروض عليها، فهذا يعني أن "دويلة" غزة يمكن أن ترى النور، وهذا يشكل عودة لسياسة فصل القطاع عن الضفة بصورتها القديمة. فهل تقبل حماس بهدنة طويلة الأمد تتضمن رفع الحصار أو تخفيف جدي له؟
الجواب: نعم، لا سيما أن الأولويةَ الحاسمةَ لدى "حماس" - كما يدل مجمل سلوكها - استمرارُ سيطرتها على القطاع إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، وما يعطي "حماس" الذريعة القوية لذلك أن أبواب إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أساس الشراكة موصدة، بدليل فشل الجهود والاتفاقيات لتحقيق الوحدة، واستمرار الإجراءات العقابية التي تفرضها السلطة على القطاع والتي تستهدف خضوع "حماس" وقبولها بتمكين الحكومة بالكامل، وهذا أشبه بالمستحيل، أو ثورة شعبية ضد "حماس"، وهذا مستبعد جدًا، أو ليذهب القطاع إلى الجحيم.
الحل بسيط لقطع الطريق على إقامة "دويلة" غزة وللتمسك بشعار "لا دولة في غزة ولا دولة من دون غزة"، وهو فتح طريق تحقيق الوحدة على أسس واقعية وطنية وديمقراطية توافقية وشراكة حقيقية كاملة، تراعي الواقع والمصالح الخاصة، ولكنها تستجيب أساسًا للمصلحة العامة.
إن هذا صعب، ولكنه ليس مستحيلًا ويحتاج إلى توفير متطلبات غير متوفرة، ولا مفر من العمل على توفيرها. فالوحدة ضرورة لا غنى عنها وليست مجرد خيار من الخيارات.