نشر بتاريخ: 31/05/2018 ( آخر تحديث: 31/05/2018 الساعة: 12:18 )
الكاتب: عيسى قراقع
بعد صلاة التراويح ، ينزل سكان مخيم الدهيشة الى الشارع الرئيسي الواصل بين القدس والخليل، تفتح المحلات حتى آذان الفجر، الناس يتجمعون أمام مؤسسة ابداع وصرح الشهداء، يجلسون على الكراسي ، نساء ورجال يمشون في الشارع، أضواء وأصوات وأغاني وحياة ليست كالحياة، بائعي القهوة والخضراوات والملابس والقطايف ينتشرون على الارصفة ينادون على بضائعهم ،حلقات نقاش سياسي وأدبي واجتماعي للمثقفين والكوادر والسياسيين ، اولاد صغار يركضون ويلعبون، البيوت في المخيم فارغة، الكل نزل الى الشارع.
في شهر رمضان الفضيل هناك رائحة مختلفة للمخيم، رائحة الاكتظاظ البشري الفائض من الارض الى السماء، رائحة الجروح المفتوحة للمعاقين الذين نزلوا بعكازاتهم الى الشارع، كل معاق يتحدث عن تلك الليلة التي اطلق فيها الجنود الاسرائيليون الرصاص على قدميه، وفي قاعة الشهداء حيث التعازي الى السهر الطويل ، يتفقد اللاجئون فيها بعضهم في ليل شهر رمضان، يخرجون من الصمت الى الكلام المفتوح، يملأون الوقت الذي مضى والوقت الذي سيأتي بعد سبعين عاما من النكبة، وحشرهم خلف شبابيك المخيمات الدامسة.
ليل شهر رمضان في مخيم الدهيشة اشدّ من النهار حزنا وأقوى من كل ما قاله القانونيون وجهابذة اللغة والتوقعات عن نهاية المأساة والوصول الى الخاتمة، قنبلة الغاز لازالت رائحتها في الازقة، ذكريات الشهداء تملأ العتمة والعتبات وملامح الامهات البائسة، اسرى محررون يحملون أوجاعهم منذ سبعين عاما يعانون ضيق التنفس في زحمة العاصفة.
ما هذه الصور والالوان التي تملأ الجدران والسقف في مؤسسة ابداع؟ صور قرى دمرت ومسحت عن وجه الارض، زيتونة باقية، مدرسة او جامع او جرسية كنيسة، صور اولاد يعشقون صوت العصافير في زرقة ذلك الفجر ، راهبة تحمل الخبز والماء الى المشردين، ولد ينحني ليلتقط حجرا ويطير مع هواء النكافة حتى لا يموت على غفلة دون أن ينتبه الشجر.
ليل شهر رمضان في مخيم الدهيشة يجمع بين الموت والحياة، جنازات وأعراس وانتشار، عشاق يلتقون ويتذكرون: لي تينة اتلفوها ولوزة جرفوها ، ولي ليمونة قصفوها ونعناعة جففوها، ولي بئر أهالوا عليه الصخور ، فلا تسمع سوى صوت الحبيبة تقول : صادروا الحقل فخذني حقلا يا حبيبي، هدموا المنزل فخذني منزلك، سأجعل أحزانك ممطرة.
ليل شهر رمضان في مخيم الدهيشة طويل طويل، الجنود يقتربون لمداهمة البيوت ، لا يجدون احدا، الناس تنام في الشارع، الشبان جاهزون ، اشارات تربك الجنود، النوم لا ينام في مخيم الدهيشة، يحلم الناس وهم مستيقظون، تطير بهم أحلامهم من حائط البراق ومن قيامة المسيح الى أبراش السجون، يحلقون على شرفات الرياح تستقبلهم غزة، البحر والجوع والارادة والمحبة.
ليل شهر رمضان في مخيم الدهيشة اسود أسود، القدس على بعد حاجز أو حاجزين، الصلاة جماعية على المدخل الشمالي للمدينة، المستوطنات تزحف وتتدلى الى داخل البيوت ودوالي العنب، الجنود يراقبون حركة المخيم من ابراجهم العسكرية العالية، إطارات تشتعل، حجارة كثيرة، غضب لا يتوقف، وعلى الشارع يحصي الناس قطرات دمهم ويجلسون على مائدة إفطار واحدة.
ليل شهر رمضان في مخيم الدهيشة يحتشد بالشعارات والعبارات الثورية والرومانسية، على كل حائط وسنسلة قولا تحته قطرة دم، بشر تجد محاريث السجانين على ظهورهم ولازالوا واقفين، مقطع شعري لمعين بسيسو يلمع من بعيد:
وانتم هناك في الشوارع الخلفية
تورمت أقدامكم
تمزقت اصواتكم
اعناقكم على صدوركم ممددة
وعندما يلوح الفجر
تمضون الى الموت او الى السجون
كي تشتروا حياة جديدة
هناك في الشوارع الخلفية
أرواح عنيدة