نشر بتاريخ: 04/06/2018 ( آخر تحديث: 04/06/2018 الساعة: 12:23 )
شارك
الكاتب: تحسين يقين
"رحلة فيل" لهدى الشوا القدومي: هدية الرشيد لشارلمان ورحلات الحضارة والسياسة والذهب الفن والتنوير
يتقاطع الذاتي مع الموضوعي، الشخصي مع العام، في رحلة السفير العربي إلى أوروبا على الأرض والماء، حيث تحمل في ثناياها رحلة أخرى لا تقلّ أهمية منها، إن لم تكن هي الهدف والرسالة. والذي يتعرض له اسحق السفير من تحديات ومشاكل، يتداخل مع ما تتعرض له علاقات دولته الخارجية مع دول العالم المؤثرة في ذلك الوقت، حيث يندمج العام في الخاص، لرمزية الخاص-السفير، وما يحمله من هدايا وكتب علم، وما يحتمل حمله من إمكانيات التحالف بين دولته الشرقية مع دولة الفرنجة، في سياق تنافس هذه الدولة مع بيزنطة. هي رحلة العلم والفن والسياسة، وهي رحلة حضارية بامتياز، يعيد فيها السفير اكتشاف بلاده في عيون الآخرين، وما تمتلكه من عناصر قوة مادية وثقافية علمية، تتنافس على اقتنائها ونقلها الدول، التي تبعث سفراء سريين وعلنيين للقيام بالمهمة. أكانت تلك المواد علم الكيمياء الذي يحول المواد إلى ذهب، أو الفيل-الهدية، الذي يطمع في استخدامه كقوة عسكرية مقابل تنين برابرة ما وراء البحار. ورحلة تنافس ملوك الدول على امتلاك عناصر القوة والمال والسيادة، تلك الرحلة التي تدخلنا في رحلة أخلاقية نطيل فيها وما زلنا الأسئلة الأخلاقية عن الخير والشرّ. وهي أيضا رحلة إعادة دوائر الزمان، عبر تناص السرديات، والإسقاط المعرفي والسياسي-التاريخي، لعله قراءة الحاضر على ضوء الماضي، والماضي على ضوء الحاضر! إنها رحلة اسحق العميقة في ذاته وقوميته، ورحلتنا نحن في ذواتنا وتاريخنا العام. تلك هي رحلات الكاتبة هدى الشوا القدومي في "رحلة فيل". هدية الملك يهدي الخليفة هارون الرشيد ملك الفرنجة شارلمان هدية، يقوم بتوصيلها السفير إسحق الذي يتقن اللغتين الرومية والفرنجية، اللتين تعلمهما من أمه الرومية. يحدثه اسحق عن الصداقة، فيحدثه الرشيد عن التحالفات. يسلك إسحق رحلة تقوده من قارة آسيا إلى قارة أوروبا، مرورا بقارة أفريقيا؛ من بغداد، فبادية الشام، فالقدس، فمصر والإسكندرية، الى القيروان، فإيطاليا، ثم إلى الألب وصولا إلى آخن عاصمة الفرنجة. من عاصمة العباسيين إلى عاصمة الفرنجة، وما بينهما من مساحات جغرافية كبيرة، ومسافات تاريخية تضاهي جغرافيتها، تمنح المسافر فرصة كافية لتأمل أبعاد الإنسان والدول: المكان والزمان والإنسان. رحلة واسحق، ولذريق قائد السفينة، والكوين مستشار الملك والاميرة روتروورد ومستشار ملكة بيزنطة ايرينا ستاروكوس، مرورا بابراهيم بن الاغلب، وبدءا بهارون الرشيد وانتهاء بشارلمان، ورجال الدين والشعراء والعلماء المذكورين وهؤلاء هم أبطال الرحلة. وكل ورحلته الخاصة داخل الرحلة: رحلة الملوك السياسية، والتحالفات الدولية والمال، ورحلة التنافس على الحكم في بيزنطة، ورحلة العلم والإيمان؛ فتصبح رحلة لذريق العادية، برغم ما تعرضت له سفينته من أهوال البحر رحلة أقل خطرا. رغم الأحداث القليلة، إلا أنها كانت كافية لإثارة التشويق، حادثة تعرض السفير اسحق لهجوم فارسين تخفيا بزي راهبين للحصول على مخطوط الكيمياء، واختبائه في أحد الآبار في ساحة المسجد الأقصى، وتعرض السفينة لهجوم القراصنة في بحر الروم وهم على مشارف إيطاليا، وتعرضه شخصيا لهجوم ستاوراكوس كبير وزراء ملكة بيزنطة الذي لم يحسن التخفي، للسبب نفسه الذي تعرض له اسحق في القدس: أسرار الكيمياء والذهب، وعلاجه في دير رهبان الكوين، وختاما بانشغال شارلمان بالخطر القادم من الشمال، وما استتبعه من اقتراح زج الفيل أبي العباس في قتال التنين، وأخيرا تسلله والفيل والعودة إلى الديار إشفاقا على الفيل، وربما على نفسه، ودولته، بأن ينأى بها عن تحالفات دولية لا فائدة حضارية منها، ووفاء للفيل الذي أنقذه ذات نهار من موت محقق على أيدي القراصنة. وقد أحسنت هدى الشوا في التعبير من خلال الوصف الذي كان مرتكزا هاما في القصة، بحيث أثار المشاعر والأفكار معا، لدرجة تصوير حزن الفيل بعد معركته مع الدب ذات ليلة مثلجة. وأبدعت في اختيار لغنها الخاصة الواضحة التي عبرت عن الماضي دون تكلف أو تعقيد لغوي. كما ربطت بين الإبداع والرحلة، كأن السفير يسري عن نفسه حينما تذكر أبيات شعرية للصنوبري تدور حول الثلج، لعله الشرب عليه: ذَهِّبْ كؤوسَك يا غلامُ فإنهُ يومٌ مفضَّضْ والجوُّ يجلى في الرياض وفي حليّ الدُّرِ يُعْرَضْ أظننت ذا ثلجا وذا ورداعلى الأغصان ينفض وردُ الربيعِ مُلَوَّنٌ والوردُ في كانونَ أبيضْ وهو من الشعر الموصوف بأنه من أحسن ما قيل في الشرب على الثلج، في دلالة على الانفتاح وعد التعصب. من بغداد إلى آخن لقد مثّلت بغداد مبتدأ الرحلة العصر العربي الاسلامي الذهبي في العلم والثقافة والفن والموسيقى، ففي عهد الرشيد تأسست بيت الحكمة في بغداد، التي أصبحت مركزا حضاريا عالميا؛ فمن أسرار الكيمياء لجابر بن حيان، والحيوان للجاحظ، واعترافات أوغسطين، في القيروان كحاضرة تتبع بغداد، نلمس تجليات العلم والأدب والتسامح ممثل بتجاور المسجد والكنيسة، ونجد ذلك في أن وصف الاختلاف المعماري بين بغداد وآخن كان ينبع من التعددية لا العدائية ونفي الآخر. إلى آخن عاصمة الفرنجة، ومستواها العلمي الذي جعل مشاهدي هدية الرشيد "الساعة المائية" يظنونها عفاريت، ليخاطب شارلمان الملك السفير اسحق قائر بتقدير: إنكم اهل علم ومعرفة في الشرق، وسنذكر علومكم الى الابد". وما انتقده الملك شارلمان من اعتراض رجال الدين على ممارسة الشباب للموسيقى والرقص، واستنكار الأمير على ممارسة أخته لدور خارج الدور النمطي المرسوم للنساء في أخن. وما ظهر من إشاعات ملتبسة بالخرافات. وما ظهر من أساليب التطبب والعلاج. لكن بذور التغيير بدأت في تفكير شارلمان حول العلم، وسخرية الأميرة روتروورد من اهتمام السفير بعلبة الزجاج التي تضم رماد أحد رجال الدين، التي حملها كأمانة لكنها كسرت في العراك مع القراصنة. المال والسياسة والتحالف، والتنافس الداخلي، والتعصب، كلها عناصر في "رحلة فيل" توحي بالسؤال الأخلاقي والفلسفي، وهو ما دار برأس السفير إسحق في تأملاته لا"اعترافات" اوغسطين: تأملات "أين الشر إذن؟ ومن أين يأتي؟ وكيف تسرّب؟ أين جرثومته؟ وما أصله؟ تلك الافكار التي رددها في قلبي المسكين المثقل باشد الوساوس ضنكا وتعذيبا، والتي سببها لي خوفي من الموت وتقصيري في اكتشاف الحقيقة؟ ص 37. هو الزمن إذن: ولربما قرنت الكاتبة الماضي بحاضر "رحلة فيل" في إشارتها إلى عام الفيل، حيث مهاجمة أبرهة مكة بالفيلة، والذي كاد أن يحسم المعركة بهذا الحيوان. ولعل لهذا الحاضر أسلحة الدمار الشامل! ماذا يبقى من التاريخ؟ لم تشي الأميرة روتروورد بالسفير المتسلل والعائد لبلاده، بل أهدته منمنمة للذكرى: صورة الاميرة والفيل، هي ذكرى شخصية ورمزبة تتساءل: ماذا يتبقى من الحياة؟ رسومات الرحلة واكبت الرسومات منذ الغلاف، وصفحة العنوان، ورسومات الفصول، أحداث النص وجوهره، شكلا ومضمونا، حتى لكأنني أغري بناقد فني أن يتناولها عرضا تفصيلا وتفسيرا وتحليلا إبداعيا؛ فمن خلال اخضرار خلفية لوحة الغلاف، وبعناصرها الزاهية، تشع بغداد بعصرها الذهبي، في عام 309 الهجري، في بداية القرن التاسع الميلادي، بفنونها وعظمتها الحضارية، في حين تنبئ صفحة العنوان عن هوية مضمون العمل الأدبي، حيث تمثلها دائرة ترمز للشرق في نصفها والغرب في النصف الثاني. وتبدأ الرسومات الصغيرة التي لا تتجاوز قطرها5 سم بمواكبة الأحداث، حيث رافق فصل "في بحر الروم" سفينة تتعارك مع الأمواج، والتي تبدو من سحرها متحركة، تحرك المشاعر والتشويق، معبرة عن الخوف أيضا، وتعبر الثانية عن الهدية، وهي الفيل نفسه بوجود الخليفة والسفير، بينما عبر من خلال طير الغراب عن فصل القيروان بسبب ارتباط الطائر بالنص، وفي فصل في بحر الروم العظيم"، تم تصوير حادثة تدخل الفيل في تناول القرصان بخرطومه ورميه الى البحر،، وفي "جنوة" حيث البر ظهرت الأرض، وفي "الألب" ظهر الدب، وفي "آخن عام الفيل" ظهرت أميرة وشجرة ذات تكوين على شكل قلب، و"في قصر شارلمان" ظهر بلاط الملك الافرنجي، ورهبان وكتاب ف"في الكاتدرائية"، وأمراء في "متنزه القصر"، وفارس مهاجم في "شهر الربيع في بلاد الفرنجة، وعلق، وتنين في "الحرب مع برابرة الشمال. بعض الفصول خلت من رسومات، وبعضها استدعت رسمتين، ولم يتم وضع الرسومات بشكل نمطي، حيث ظهرت في البداية والوسط والنهاية. تصميم الغلاف كانت للفنان سومر كوكبي، أما الرسومات الداخلية فكانت للفنانين وائل عبد الله الخرس وأحمد ماجد بودهام. في "رحلة فيل"، واصلت الكاتبة رحلتها في استلهام التاريخ لمادتها الأدبية، من منظور حضاري، باتجاه تنويري نهضوي، حيث جاءت هذه الرحلة، بعد "رحلة الطيور إلى جبل قاف"، و"دعوى الحيوان ضد الإنسان"، و"كاشف الأسرار". وقد أتبعت هذه الرحلة برحلة أخرى كنا قد تناولناها من قبل، من خلال "أبوللو على شاطئ غزة". خمس رحلات: "رحلة الطيور إلى جبل قاف"، و"دعوى الحيوان ضد الإنسان"، و"كاشف الأسرار"، و"رحلة فيل"، و"أبوللو على شاطئ غزة"، كافية للدراسة والتحليل التاريخي-الأدبي، وما تبعثه من رسائل! وأخيرا: تاريخنا كبير ومستمر وجغرافيتنا؛ ولنا ما يمدنا بالأمل إن أردنا، فلا ننشغلن بلحظة إلا انشغالا إيجابيا، مقاومة إبداعية ببقاء لعله الأروع من كل بقاء؛ إذن فلأصحبكم/ن في هذه الرحلة على أمل التأمل اللازم لرؤية على أي أرض نقف أو نسير! أما الأدب فله الفضل، وللكتاب والأدباء ألا يبحثوا عن دور، بل أن يقوموا به واثقين/ات. هل نقرأ أمس ونقيسه على اليوم من باب قياس الحاضر على الغائب! هل نقرأ أمس ونقيسه على اليوم من باب قياس الحاضر على الغائب! أم هي قراءة جديدة لليوم على ضوء أمس؟ فنيا وأدبيا، أسقط الكتاب كثيرا في قراءة الأمس لنقد اليوم، وأني ذهبوا في مذاهبهم، فإن الأدب هنا إنما يأتي ليقول مقولة فكرية وإنسانية وطنيا وقوميا!
[email protected] *صدرت "رحلة" فيل عن دار الساقي، ووقعت في 111 صفحة من القطع الصغير.