الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الانقلاب: مقصلة التحرير ورافعة الاحتلال

نشر بتاريخ: 14/06/2018 ( آخر تحديث: 14/06/2018 الساعة: 01:09 )

الكاتب: فهمي سالم الزعارير


سياسي فلسطيني
في الرابع عشر من حزيران ٢٠٠٧، وقعت الكارثة الفلسطينية الكبرى في مسيرتنا الوطنية، التي برأيي ما لم تَزُل وما لم تُزَلْ آثارها، فإن الحديث عن إنهاء النكسة وآثارها، أو آثار النكبة، يبقى قولا شعاراتيا لا يعبر عن أي خطوة عملية أو فعل مؤثر.
عايشت وقوع الانقلاب لحظة بلحظة ورصاصة برصاصة ونقطة دم بأخرى، بحكم مهمتي الاعلامية آنذاك، وهي مشاهد لا يمكن أن تسقط من ذهني كصورة مدمرة لقيم شعب مناضل ومناهض للاحتلال، وتابعت كل ما قيل إبان الانقلاب قبل وبعد، وكنت أكثر تألما بكل ما حَلَّلْت بيني ونفسي، عن حقيقة ما حصل. لقد دُفِعنا جميعا الى هناك، "للاقتتال الداخلي"، لتدمير مشروع التحرر الوطني، والدولة المدنية الديمقراطية، والنموذج الفلسطيني لدولة عصرية قادرة على التنافس في الشرق، بامكانياتها البشرية الهائلة والعملية المؤهلة، المتنوعة والمتنورة، إذ أن شعب فلسطين المؤهل علمياً والثري معرفياً، متنوع التجربة وواسع الانتشار العالمي، لكنه كان الأسهل لبدء "النموذج التجريبي" لمشروع الفوضى الخلاقة، والربيع العربي مظهرياً، الغربي جوهرياً.
لقد وضع الانقلاب الدموي في قطاع غزة مسيرة التحرر الوطني الفلسطيني في غرفة العناية المكثفة على أقل تقدير، وبعده بات الهم الحزبي والفصائلي "يطغى على كل اهتمام"، وبات الهم الأول كيف لا تسمح فتح "وهي على حق مطلق" بعدم تكرار تجربة غزة في الضفة، وكان هذا على حساب تطور الفعل التحرري والحياة المدنية لسكان الضفة، وتصريحات قادة حماس الراغبة بتكرار تجربة غزة في الضفة موثقة حد الصلاة في المقاطعة "المقر الرئاسي"، كما أن حماس تحاول الحفاظ على حكمها المغتصب في غزة بأي ثمن وحتى لو تحولت غزة الى "خرابة"، كل ذلك جاء على حساب المشروع الوطني برمته وحريات المواطن وحقوقه، ذلك أن حماس لم تعد تحقق غايات حكمها لقطاع غزة، فسقطت الفائدة، وفتح ليس طموحها حكم الضفة، لكن الاحتلال هو المستفيد والطامع في ديمومة هذا الحال.

في خضم هذه السنوات الطويلة عاشت غزة أربع حروب دفاعية، أثبتت أن عملية التحرير لم تعد في ذهن حماس أصيلة وواقعية، - بل وصل حد توصيف النضال الوطني في القطاع الى "أعمال عدائية" بحسب اتفاق التهدئة الذي رعاه محمد مرسي رئيس مصر السابق من الاخوان-، وهو ما أثبته البرناج والوثيقة السياسية الأخيرة لحماس، وحماس التي تعلم أن القطاع لم يتغير مركزه القانوني من " محتل الى محرر"، حيث لا سيادة براً ولا بحراً ولا جواً ولا حتى بشراً، هي تتعامل مع القطاع باعتباره "إماره محرره"، رغم كل التغييرات التي يشهدها الاقليم وكل الألم الذي تعيشه غزه.
والانقلاب ذاته دشّن مرحلة الانقسام الفعلي بين الضفة والقطاع، ومعلوم أن الاحتلال يُحاصر القدس كليا عن محيطها في الضفة الغربية حد التهويد، ولطالما حذرنا بعبارات واضحة؛ الانقسام خطوة عملية نحو الانفصال التام.
ولعلنا لا نغالي بالتذكير إذا قلنا أن مؤسسات الحكم في دولة الاحتلال، - ربما اعتمادا على ما ورد في التوراه-، تلعَن غزة وترفضها ولا تطمع بها، وكل مشاريعهم تتعاطى مع قيام "دولة غزة" اتسعت أم ضاقت، أما الضفة الغربية بما فيها جبال القدس، المسماه توارتيا "يهودا والسامره" فهي جوهر العقيدة اليهودية، وعليه فإن وقوع الانقلاب كان رغبة ودفعا من حكام تل أبيب، واستمراره مخططٌ لا تنازل عنه، للاستفراد التام في الضفة الغربية بعدما استفردت في القدس.


من جديد الانقلاب مقصلة المشروع الوطني التحرري ورافعة المشروع الاحتلالي، ولا يمكن مواجهة "صفقة العصر" بهذا الحال، والا سيكون وعد ترامب وصفقته أقرب للتحقيق كما "وعد بلفور"، وسيكون من حق الأجيال لاحقا الترديد، أننا رفضنا "مشروع ترامب التصفوي" ولكن العرب خانونا، لكن بعضهم على حق سيقول "خُنا أنفسنا، فخاننا العرب".
هنا يتضح؛ إنهاء آثار النكسة لا يمكن إلا بانهاء آثار الكارثة "الانقلاب"، كي نتجنب آثار التصفية "صفقة ترامب" في عصره، وعلينا التنبه أن قانون التحرر الوطني يعتمد على أن الوحدة بين القوى الوطنية الفلسطينية ممر اجباري لا بديل له، من أجل التحرير والاستقلال الوطني، والبقاء في مربع القسمة هو التواطؤ المباشر وغير المعلن مع مشاريع التصفية للقضية الفلسطينية.

أما شق الدمار الآخر الذي أحدثه الانقلاب الكارثة، فهو تدمير "البنية الفوقية" للشعب الفلسطيني، فقد أنهى الانقلاب وحدة المؤسسات الحكومية والرسمية والأهلية وحتى الحزبية الفصائلية، وقدرتها على الادارة والقيادة والتأهيل، وتطبيقات القوانين "بل حتى تغيير القوانين"، إنهيار السلطة التشريعية والرقابية، تفكك السلطة القضائية، وشلل تام في الحياة الديمقراطية، وتلاشي الارادة الفردية والجماعية، وتراجع الحريات الشخصية والعامه، وحقوق الانسان والحريات بما فيها حرية الرأي والتجمع والتظاهر، وبالتالي انهيار قيمة الانسان والقيم الانسانية على نحو عام، وقدرته على على الصمود والابداع. لقد دشن الانقلاب الخطوات الأولى لانهيار دعائم المجتمع المدني والمجتمع السياسي، واستمراره يُغذّي تلاشيهما لصالح مجتمعات بدائية ضعيفة.
لقد أجرينا انتخابات رئاسية وتشريعية عام ١٩٩٦، بعد أقل من عامين على قيام السلطة الوطنية، وأجرينا بعد كل مصاعب وأهوال انتفاضة الاقصى ٢٠٠٠، واستشهاد زعيم الشعب الفلسطيني الخالد ياسر عرفات، وبعض من أعظم قياداته، الشهداء؛ أبو علي مصطفى، أحمد ياسين، فيصل الحسيني، سليمان النجاب، ومئات الكوادر القيادية المتقدمة، بعد هذا نظمنا انتخابات رئاسية عام ٢٠٠٥ ثم تشريعية عام ٢٠٠٦، اليوم نحن أمام انهيار المنظومة الديمقراطية الفلسطينية كأداة بناء لازمة وشرطية وفق القانون والحاجة، والانتخابات التي تجري تتم بطرق عجيبة إن جرت، في المؤسسات وحتى داخل الفصائل بلا استثناء، وبدل أن يراكم شعبنا نموذج الاختيار الحر بالمشيئة الحرة والمستقلة، تُنفى الارادات ويتم تطويعها أو تجاهل الحي منها، وغزة لا تجري فيها أي انتخابات ديمقراطية الا في المؤسسات والنقابات المرتبطة مركزيا والزاميا مع الضفة.
أي كارثة بنيوية هذه، الشعب الفلسطيني الذي كان يُنظم انتخاباته الطلابية والنقابية ونواديه وجمعياته "إبان الاحتلال"، وبطريقة مشهوده ومعتمدة في الشفافية والنزاهة، يعجز عن ذات الفعل الآن، تلك العمليات الديمقراطية بنت من الخبرات والقدرات وراكمت من التجارب لدى عدد هائل من كوادرنا النقابية والوطنية، اليوم يُمنع هذا الحق كليا في غزة، ويؤجل جزئيا في بعض مؤسسات الضفة، ولا بارقة أمل لاجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتبقى مساحات الفوضى والاختلاف مرسومة.
إن إنهيار البنية الديمقراطية الفلسطينية سهلت انهيار "البنية الفوقية"، تراجع على كل المستويات وانهيار التحصينات الفردية والجماعية، وبروز النزعة الفردية لدى المجتمع الفلسطيني في الوطن، وضعف ولائه وانتمائه للوطن، حتى باتت نسبة الراغبين في الهجرة في القطاع تتجاوز ٤٥٪ وفي الضفة تتجاوز ٢٤٪، وفق احصاء مسحي دقيق، وهو أمر جلل مر دون وقفة جادة في السياسات العامة لتجنبها.
علينا تجاوز الانقلاب وآثاره بانهاء الانقسام القائم الآن بين الضفة والقطاع عبر الوحدة الوطنية الشرط اللازم للتحرير والبناء، يجب أن تتوفر شروط احترام ارادة الشعب الفلسطيني، لاعادة الاعتبار للنظام السياسي مكتملا، تَعود فيه القيمه والالتزام بالقانون الأساسي، وتطلق فيه الحريات وفي المقدمة التعددية السياسية والحزبية والديمقراطية والفردية والجماعية، والشروع في بناء نظام ديمقراطي عبر صندوق الاقتراع، تحترم فيه ارادة الشعب في خياراته، في انتخابات رئاسية وتشريعية، تنقلنا من "مرحلة السلطة بكل التزاماتها الى مرحلة الدولة بكل استحقاقاتها"، تُبنى عبرها مؤسسة تشريعية ورقابية تنظم حياة الناس وتكفل حقوقهم الشخصية والعامة، وتكفل حق التقاضي في نظام قضائي مستقل، تُستعاد فيه هيبة النظام بسلطاته الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وهيبة المفوضين انتخابا أم تكليفا.
إن الشعب الفلسطيني يستحق حالا خيرٌ من حاله هذه، وإن قيادة العمل الوطني لا يمكن أن تكون سدنة الحق الفلسطيني والقضية الوطنية، ما لم توفر ظروف ومقدرات نضالية تنهي الاحتلال وتُجسد الاستقلال، وإن هذه المرحلة لا يمكن تلمسها أو استشعارها ما دام الانقلاب واقع مادي في غزة، ولقد درجت على القول "القضية الوطنية في أحط مراحلها محاقاً، وظلامها يدلَهِم كل يوم حتى يزول الانقلاب". واليوم أضيف، إن الانقلاب كسَّر المحرمات والمقدسات الفلسطينية، وعبد شوارع تدميرها، واذا ما بقينا هكذا فإنني أحذر، أن المرحلة القادمة من الاحتلال ستكون أصعب وأقسى وأمر، مما سبق، ذلك أننا كسرنا محرمات ومقدسات، لم يستطع الاحتلال عليها ما بعد النكبة، فسهَّلنا عليه القادم، أو أن يُقدِم الاحتلال على الضم المطلق لمناطق انتقائية "غالبية مناطق ج، أرض بلا سكان" في الضفة، والتخلص كليا من غزة، مبقيا لنا "روابط لمراكز المدن الفلسطينية"، (يطول الحديث عن هذا)، استسهال وتفضيل أي من الخيارين أعلاه، مرتبط بالانقسام والفصل بين الضفة وغزة.
المجد لشهداء الانقلاب والفتنه في غزة في ذكراهم، والعلياء لهم ولكل شهداء فلسطين.