الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

في الرهان على غزة لإسقاط صفقة القرن

نشر بتاريخ: 25/06/2018 ( آخر تحديث: 25/06/2018 الساعة: 12:00 )

الكاتب: د.نايف جراد

بات من الواضح أن صفقة القرن الأمريكية تهدف إلى إيجاد حل للقضية الفلسطينية يقوم على اقامة دويلة فلسطينية في غزة، دون الضفة الغربية والقدس، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها وفي سيناء، عبر غطاء مشاريع اقتصادية وتنموية كالميناء والمطار ومحطات تحلية للمياه وإنتاج كهرباء وإقامة منطقة تجارة حرة. وبالتالي تقام دويلة في غزة، بينما يتم الاستفراد بالضفة الغربية عن طريق تكريس تقاسم وظيفي بين السلطة وإسرائيل والأردن، قد يتطور إلى إعادة إحياء مشروع المملكة العربية المتحدة مع إبقاء الأمن والسيطرة على الحدود والمواقع الاستراتيجية بيد سلطات الاحتلال الإسرائيلي في ظل اتفاق متعدد الأطراف برعاية أمريكية.
ولئن كانت مصر والأردن وكل الأطراف الفلسطينية رسميا تنفي قبول مثل هذا المشروع، إلا ان التحركات على الأرض تبين بأن لهذا المشروع قبولا عربيا وعلى الأقل من باب تمويل المشاريع الاقتصادية والتنموية التي قد تسعف في تهدئة الوضع المتفجر في غزة وتعود بالمنفعة على مصر ودول الاقليم وتسمح بالتطبيع مع دولة الاحتلال، وبالتالي التفرغ الكامل للصراع مع إيران وحلفائها. وبينما أوضحت السلطة الفلسطينية بشخص الرئيس محمود عباس موقفها الرافض بوضوح وبشكل جازم لهذا المشروع، إلا أن موقف حماس لما يزل بعد يعتريه الالتباس ويظهر استعداد حركة حماس لمقايضة وجودها وسيطرتها وفك الحصار تحت عنوان الحل الانساني مقابل الحل السياسي الذي يؤكد الثوابت الوطنية في العودة واقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس على كامل الأراضي المحتلة عام 1967.
ومن الواضح أيضا أن ظروف غزة الاقتصادية والانسانية الصعبة، والمتفاقمة جراء الحصار الظالم المفروض عليها من قبل الاحتلال الاسرائيلي والإجراءات المختلفة المتخذة بهدف الضغط على حماس من قبل أطراف مختلفة بما فيها السلطة الوطنية الفلسطينية، وفشل المصالحة وبالتالي استمرار انقسام غزة عن الضفة، وسعي حماس لإبقاء سيطرتها على القطاع وفك الحصار عنه بأي ثمن، ومشاركة الولايات المتحدة الأمريكية بزيادة تفاقم الوضع الانساني جراء تقليص ووقف الدعم للأونروا ومحاولة شطبها الأمر الذي يقلص خدماتها للاجئين المتكدسين في غزة ويزيد من معاناتهم، تشكل الأرضية الخصبة لتمرير هذه الصفقة.
وهكذا فإن مثل هذا الوضع ليس بجديد في التاريخ الفلسطيني. وهو يستهدف رفع مستوى معاناة سكان غزة ومفاقمة أوضاعهم الانسانية لدفعهم لقبول حلول تنتقص من حق العودة، وايجاد حل للمعاناة وتكدس اللاجئين برفع مستوى المعيشة وبالتوطين في سيناء تحت عنوان التنمية والمشاريع الاقتصادية.
فهل تستطيع الأطراف المعادية للشعب الفلسطيني ان تمرر هذا الحل التصفوي للقضية الفلسطينية؟ وهل ستقبل غزة بهذا الحل تحت ضغط المعاناة؟ أم أن هنالك ثمة رهان على غزة لافشال هذا المشروع التصفوي؟
إن تاريخ غزة حافل بالنضال لمواجهة مؤامرات تصفية القضية الفلسطينية. وشهدت غزة عبر تاريخها المعاصر بعد النكبة أحداثا دلت على رفض الشعب الفلسطيني لأية حلول تنتقص من حق العودة والحقوق الوطنية المشروعة ورفض أية بدائل عن فلسطين. بل وإن غزة قد باتت بالنسبة للشعب الفلسطيني عنوان لانطلاق وتجدد الوطنية الفلسطينية وعنوانا لتمركز اللاجئين الفلسطينيين أيضا. ولعل مشروع دويلة غزة المتوسعة في سيناء يستهدف هاتين المكانتين معا: الوطنية والعودة.
وقد جاءت مسيرة العودة الكبرى التي انطلقت في غزة في الذكرى 42 ليوم الأرض، لتحيل إلى حلم العودة الذي رافق اللاجئين الفلسطينيين تاريخيا، والذي ما فتئت أجيالهم المتعاقبة تردده شعارا دائما وخاصة في مناسبة ذكرى النكبة في 15/5 من كل عام منذ أن حدثت النكبة عام 1948 وحتى اليوم. وقد شكل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها عنوة من قبل الصهاينة، استنادا للقرار 194 لعام 1948، الذي وافقت عليه اسرائيل أيضا كشرط من شروط عضويتها في الأمم المتحدة بناء على القرار رقم 273 لعام 1949، وبات هذا الحق ركنا أساسيا من أركان النضال الوطني الفلسطيني وتكرس كجزء من برنامج الاجماع الوطني الفلسطيني وكحق غير قابل للتصرف للشعب الفلسطيني حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3236 لعام 1974، و كجزء من حق تقرير المصير إلى جانب حق الاستقلال والسيادة الوطنيين.
تعبيرا عن التمسك بهذا الحق، قاوم الشعب الفلسطيني كل محاولات التوطين خارج فلسطين، ومنها مشاريع التوطين في سيناء، التي كان أولها خطة ماك غي مستشار وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط عام 1949، والتي لقيت صداها في مشاريع لاحقة في خمسينيات القرن الماضي والعقود اللاحقة، وأخطرها كان الاتفاق الأمريكي مع الأونروا والحكومة المصرية عام 1953 لتوطين اللاجئين في سيناء، الذي عرف بمشروع آيزنهاور والذي عمل عليه وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك جون فوستر دالاس بالتعاون مع السير جونسون الوزير المفوض في السفارة البريطانية في القاهرة ومدير وكالة الغوث السيد بلاند فورد، والذي تصدت له وأحبطته جماهير غزة بانتفاضتها الباسلة في الأول من آذار عام1955. ومن الملاحظ أن هذا المشروع، قد ترافق مع مشروع آخر يستهدف دمج وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وهو المعروف باسم " مشروع جونستون" لعام 1953.
في ذلك الحين وجراء النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948، والتي كانت من أكبر عمليات التطهير العرقي التي شهدها العالم المعاصر، كان الكيان السياسي للشعب الفلسطيني قد دمر، ووحدة النسيح المجتمعي قد مزقت، والحركة الوطنية الفلسطينية قد اندثرت، ولم تتوفر لحكومة عموم فلسطين التي أعلنها الحاج أمين الحسيني في مدينة غزة يوم 23/9/1948، والتي قامت باعلان استقلال دولة فلسطين بتاريخ 1/10/1948، أي مقومات للحياة، حيث تم وأدها وهي في المهد، وماتت معها الهيئة العربية العليا، وخضع الشعب الفلسطيني للوصاية العربية الرسمية. وبينما الحقت الضفة الغربية بشرقي الأردن في اطار المملكة الأردنية الهاشمية، أخضع قطاع غزة لإدارة الحكومة المصرية، وتولت حكومة الملك فاروق التي يرأسها محمود فهمي النقراشي تنفيذ مخططات بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية الهادفة لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، عبر نقلهم لمناطق أخرى كالعراق وليبيا ولتوطينهم في شبه جزيرة سيناء.
ولم يكن مشروع التوطين في شمال غرب سيناء آنذاك، سوى حلقة من حلقات محاولات تصفية القضية الفلسطينية عبر تسوية الصراع العربي الاسرائيلي وصولا ل"صلح وسلام شامل" بين مصر( وبقية الدول العربية) واسرائيل، والتعاون معها برعاية أمريكية( وبريطانية) في إطار حلف اقليمي لمواجهة "العدو المشترك"، والذي كان تمثل آنذاك بالاتحاد السوفييتي تحت عنوان مواجهة " الخطر الشيوعي"( لاحظ العنوان الحالي لصفقة القرن والنغمة الشبيهة حول السلام والحلف الاقليمي والعدو المشترك ألا وهو إيران). وكان قطاع غزة آنذاك، المحدود المساحة والموارد، يعاني من تدفق وتكدس عدد هائل من اللاجئين الفلسطينيين( ضعفي عدد السكان الأصليين)، الأمر الذي تحول مع سياسات الحكم العسكري المصري إلى معاناة اقتصادية وانسانية كبيرة كانت تنذر بانفجار, وعلى الرغم من أن ثورة 23 يوليو عام 1952 قد قوبلت بتفاؤل سكان قطاع غزة بعد سنوات الضياع والبحث عن مستقبل الوجود(1949-1952) كما يقول حسين أبو النمل ، إلا أن "الثورة" المصرية كانت لا تزال في " مرحلة البحث عن الذات" ومنشغلة بالأوضاع الداخلية والتركة الثقيلة من النظام القديم وعينها على إتمام عملية جلاء القوات البريطانية عن أراضيها، فلم تهتم كثيرا بغزة، بل استمرت تقريبا على ذات النهج السابق بالتعامل معها. ففي مذكرة رفعتها حكومة عموم فلسطين الى اللواء محمد نجيب رئيس الحكومة المصرية آنذاك، أوضحت أن سكان قطاع غزة يعانون من غياب قوة عسكرية تدافع عنهم في مواجهة العدوان الصهيوني، و من أوضاع اقتصادية صعبة متمثلة بفرض ضرائب ورسوم جمركية عالية، ومحرومون من حرية التنقل والسفر والعمل، مقترحة ضرورة حل تلك المشاكل بتسليح الشعب وتوزيع أراضي " الجفتلك الرملية" لزراعتها واستثمارها بما يوفر فرص عمل ودخل للسكان. لكن الحكومة المصرية أهملت مطالب سكان قطاع غزة، مبتعدة عن معالجة المسألة السياسية، وتعاملت مع مشكلة غزة كمسألة أمنية من المفروض ضبطها خوفا من تفجر الصراع مع اسرائيل وهي غير مستعدة له، وكمسألة انسانية يمكن حلها بالإغاثة، فشجعت تسيير ما سمي ب" قطارات الرحمة" وأوكلت توزيعها لجماعة الاخوان المسلمين، التي وظفتها سياسيا لصالحها( حيث كانت تربطها علاقات جيدة مع رئيس وزراء مصر آنذاك محمد نجيب ولم تفرط علاقتها بعد مع النظام التي تفجرت بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954).
لكن سكان قطاع غزة بعامة ولاجئيه بخاصة، ومنذ النكبة عام 1948، كانوا يعبرون عن استيائهم من الأوضاع المزرية بأشكال عديدة ومتنوعة، ومنها أعمال فدائية فردية ضد المحتلين الصهاينة ومستوطناتهم القريبة من حدود القطاع، وكانت سياسة اسرائيل تدفعهم نحو الاحباط وفقدان أمل العودة وضرورة البحث عن ملاذ في مصر او غيرها من بقاع العرب. ولقد وجدت هذه الأهداف الاسرائيلية تفهما لدى الادارة الأمريكية ووكالة الأونروا( التي كانت قد أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 302 لعام 1949، وباشرت عملياتها في الأول من أيار عام 1950)، حيث تم الدفع باتجاه استدامة الأوضاع الاقتصادية والانسانية الصعبة ومفاقمتها عن طريق التحكم بتمويل الأونروا وتقليل ما يمكن تقليله من الاغاثة والخدمات لصالح زيادة مخصصات اعادة الدمج الاقتصادي والتوطين، والضغط على مصر من أجل القبول بحلول سياسية تدمج قطاع غزة بمصر مقابل حل أزمة غزة الاقتصادية ومعها أزمة مصر الاقتصادية أيضا. ومن هنا جاءت فكرة التوطين في سيناء عام 1953، التي رفضتها أغلبية القيادات الفلسطينية باستثناء بعض القيادات التقليدية التي مثلها رشاد ورشدي الشوا( واللذان أيدا أيضا مقايضة حكم بريطانيا لقطاع غزة بقناة السويس).
وفي محاولة منها لتحويل غزة الى جحيم للضغط على الفلسطينيين وعلى مصر، واستكمال مشروعها التوسعي بضم قطاع غزة خاليا من السكان، وفي مرحلة ما يمكن تسميتها بالدفاع عن وجودها الأولى، وعلى أمل توتير علاقات مصر ببريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، كانت اسرائيل تقوم بأعمال عدوانية عسكرية متكررة ومستفزة، فارتكبت مجزرة في البريج بتاريخ 28/8/1953، راح ضحيتها (20) شهيدا وعشرات الجرحى، مما فجر الغضب الشعبي في غزة فاندلعت مظاهرات عارمة عام 1953، وكانت مطالب المتظاهرين وقف مشروع التوطين في سيناء، وتسليح الشعب، ورضخت الحكومة المصرية لتلك المطالب في العلن، لكن مشروع التوطين في سيناء بقي قائما. واستمرت الأعمال العدوانية والاستفزازية للجيش المصري وضد الحرس الوطني في غزة في السنوات اللاحقة، وترافق ذلك مع المخطط الأنجلو- أمريكي المعروف باسم" ألفا" والهادف لايجاد تسوية عربية اسرائيلية لتأمين مصالح الغرب في الشرق الأوسط ومنع التمدد الشيوعي، والذي حاول أن يقايض مصر بمنحها مساعدة اقتصادية من البنك الدولي لبناء مشروع السد العالي مقابل حرية الملاحة الاسرائيلية في قناة السويس وخليج العقبة وانهاء حالة الحرب معا. لكن عبد الناصر قد واجه عرض إتمام التسوية بشرط عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وتنازل اسرائيل عن جنوب صحراء النقب لتكون مصر متصلة بريا بالأردن. ونتيجة لذلك لجأت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا للخطة" اوميغا" الهادفة لتحجيم دور مصر بالضغط الاقتصادي عليها الذي وصل حد وقف تمويل مشروع السد العالي ومحاولة الايقاع بينها وبين السعودية الداعمة اقتصاديا لها والمتحالفة معها في مواجهة "حلف بغداد" بين العراق وتركيا (بمشاركة بريطانيا والباكستان وايران)، ورفض مدها بالسلاح تحت ذريعة عدم تشجيع سباق التسلح في المنطقة. ولهذا وإمعانا في مخططها التوسعي والضغط على مصر أخذت اسرائيل بزيادة أعمالها العسكرية العدوانية على غزة وضد الجيش المصري، والتي وصلت ذروتها في 28/2/1955 بارتكاب مجزرة قرب سكة الحديد في غزة راح ضحيتها(26) شهيدا، اتبعت بكمين عند نقطة البوليس الحربي جنوب القطاع أودى بحياة (56) جنديا مصريا وفلسطينيا. وهكذا بات شعور سكان قطاع غزة مع هذه المذابح أنهم مهددون في حياتهم وأمنهم كأفراد، فتزاوج ذلك مع همهم الوطني العام وهمهم المعيشي، فكانت تلك المجازر صاعق الانفجار الذي جعلهم يخرجون بشتى انتماءاتهم الى الشارع في انتفاضة الأول من آذار عام 1955، تحت شعار " لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان". و توحدت القوى الناشطة آنذاك في القطاع، وفي مقدمتهم الشيوعيون والاخوان المسلمون ضد النظام المصري وضد سياسة التوطين، واستطاعوا معاً قيادة الجماهير الغفيرة في انتفاضة آذار. وبرز على رأس الانتفاضة قيادات وطنية أمثال فتحي البلعاوي ومعين بسيسو وجمال الصوراني، وجوبهت بقمع شديد من الادارة المصرية راح ضحيته (30) شهيدا وأكثر من ألف جريح. وعلى الرغم من قبول الحكومة المصرية لمطالب انتفاضة غزة، إلا انها أعقبتها باعتقالات في صفوف المناضلين الفلسطينيين. لكن الاحداث أدت إلى تحولات لاحقة في سياسة مصر عبد الناصر، حيث اتجهت نحو تعزيز قوتها العسكرية لمواجهة القوة العسكرية المتزايدة والعدوانية لاسرائيل بشراء أسلحة من الاتحاد السوفييتي والتي عرفت بصفقة الأسلحة التشيكية الشهيرة عام 1955 وأعلنت لاحقا عن تأميم قناة السويس عام1956، وأنشأت الكتيبة(ك141) الفدائية بقيادة واشراف الضابط المصري القومي المقدم مصطفى حافظ، لترد على العدوان الاسرائيلي وأطماع اسرائيل و لتستثمر مقاومة الشعب الفلسطيني وتستقوي بها في مواجهة الضغوطات الخارجية.
وهكذا فإن انتفاضة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عام 1955 ضد مشروع التوطين كانت، كما يقول غازي الصوراني، "بمثابة إعادة الروح لشعبنا كله وإحياء جذوة الأمل والنضال فيه من جديد" ومع الانتفاضة انتقل دور أهالي قطاع غزة كما يؤكد حسين أبو النمل، "من دور الكتلة الجماهيرية الخاملة التي يمكن تحريكها كما اتفق" والتي كانت تشارك في انتفاضات الشعب الفلسطيني الكبرى التي كانت تندلع في مواجهة الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني ( بسبب غياب مشكلة يهودية يومية في غزة قبل عام 1948)، " الى دور الكتلة الفاعلة القادرة على ممارسة الرفض المؤثر، والتي أجبرت الحكومة المصرية والأنروا والجهات الدولية على التفكير بموضوع اللاجئين الفلسطينيين بطريق مختلف". وبهذا نقلت غزة قضية فلسطين من قضية " مؤجلة" إلى قضية وطنية " متفجرة"، ومن قضية لاجئين الى قضية وطنية لم يعد بالامكان تجاهلها في أي جدول اعمال يخص الصراع العربي الاسرائيلي والترتيبات المتعلقة بالمنطقة.
كان الرد الاسرائيلي والغربي على المواقف المصرية القيام بعدوان عسري ثلاثي بريطاني فرنسي اسرائيلي مدعوما من أمريكيا على مصر عام 1956 واحتلال القوات الاسرائيلية لقطاع غزة( والتي أطلقت على عمليتها اسم "قادش" في تعبير عن أطماعها التي عبر عنها بن غوريون لاقامة مملكتها الكبرى التي تشمل الأراضي الواقعة بين الفرات والنيل حيث موقع قادش الذي انطلق منه النبي موسى واتباعه هاربين من الفراعنة)، وهو العدوان الذي لاقى مقاومة مصرية وفلسطينية باسلة، والذي لم يتوقف إلا بعد التحذير السوفييتي شديد اللهجة للرد على العدوان.
ومن الجدير بالذكر أن مصير قطاع غزة آنذاك قد طرح بقوة على طاولة البحث، فدعا البعض لتدويل القطاع، ودعا آخرون لاعلان قيام دولة فلسطينية في غزة، وطالب آخرون باعادة غزة للحكم المصري. وتغلبت الدعوة الأخيرة، فعادت الادارة المصرية لحكم قطاع غزة مجددا.
وتعد هذه الأحداث في التاريخ بمثابة الحرب العربية الاسرائيلية الثانية بعد حرب 1948، وكان لها تداعيات كبيرة على التوازن الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أن نجم القوى الاستعمارية التقليدية كبريطانيا وفرنسا بدأ يأفل وتسقط معه منظومة الاستعمار القديم، و الذي ترك فراغا قامت الولايات المتحدة الأمريكية كدولة عظمة زعيمة للمعسكر الغربي الرأسمالي بتعبئته، بينما أخذ نجم الاتحاد السوفييتي كدولة عظمى قائدة للمعسكر الاشتراكي يبرز ويتألق على الساحة الدولية، فاحتدمت الحرب الباردة بين المعسكرين، وبات للقوى الاقليمية الكبيرة في الدول النامية دور جديد عبرت عنه حركة عدم الانحياز بقيادة مصر والهند وأندونيسيا ويوغسلافيا، و وشارك الحاج أمين الحسيني ممثلا لفلسطين في المؤتمر التأسيسي في باندونغ عام 1955، ثم شاركت منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني لاحقا ومنذ إنشائها عام 1964 في حركة عدم الانحياز، ونالت عضوية مراقبة فيها عام 1965 ، وحصلت على العضوية الكاملة عام 1975.
وهكذا كانت غزة مقبرة للمشاريع التصفوية المشبوهة التي استهدفت الحقوق الوطنية التاريخية والمشروعة للشعب الفلسطيني، والتي استهدفت اقامة دولة في غزة دون بقية الأرض الفلسطينية والقدس، كما استهدفت توطين اللاجئين وشطب حق العودة، واستمر هذا التاريخ المشرف لغزة لاحقا، وهو ما أكدته أدوارها في انتفاضة كانون الأول عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000، وأخيرا في مسيرات العودة التي لاتزال مستمرة إلى اليوم. ولعل هذا التاريخ المشرف لغزة هو الأمر الذي نراهن عليه اليوم، والذي يشكل رصيد شرفائها وشرفاء كل الوطن الفلسطيني، في التصدي لصفقة القرن وما يحاك من مؤامرات لغزة تستهدف فصلها عن الضفة والقدس واقامة دويلة فيها بتوسيعها عبر سيناء. ولكي يجري تعزيز هذا الرهان والنجاح فيه لا بد من الحرص على وحدة الصف الوطني في مواجهة صفقة القرن واعتبار التصدي لها وإسقاطها هو الحلقة المركزية في النضال الوطني الفلسطيني راهنا، الأمر الذي يستدعي بذل كل ما يمكن من جهد لتجاوز كل ما أعاق ويعيق إتمام المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام البغيض.