الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

لن يوقف الوهم العد التنازلي لانفجار غزة

نشر بتاريخ: 26/06/2018 ( آخر تحديث: 26/06/2018 الساعة: 12:03 )

الكاتب: د. عبير عبد الرحمن ثابت

ثمة نزيف من الكرامة يعتري غزة؛ ففى جل بيوتها ثمة مأساة وثمة مهانة يومية لكرامة الانسان بفعل العجز على تلبية أدنى مقومات الحياة الآدمية، فثمة أطفال لم يصلهم العيد، وثمة نساء لا يجدن طعاما لأطفالهن؛ وثمة رجال غارقين في غلبة الديون يقتلهم قهر الرجال. ولا غرابة إن تشهد غزة ثلاث حالات انتحار خلال أول يومين من أيام العيد وهم ضحايا لتلك المأساة؛ فهم يهربوا من جحيم العجز إلى ما يعتقدوا أنه رحمة الموت؛ إنه القتل الرحيم ينفذه الإنسان بنفسه حينما يصل العجز واليأس منتهاه.
وفي المقابل ثمة عجز من نوع آخر يعتري صناع القرار الفلسطيني، إنه العجز السياسي أمام الواقع القائم للحالة الفلسطينية برمتها ولقطاع غزة بشكل خاص، فبعد ما يزيد على عقد من الانقسام بين شطري ما تبقى لنا من وطن وعدم قدرتهم على تصويبه، أُلقوا بكرة لهيب الانقسام في ملعب الشعب الفلسطيني بعد أن فشلوا على إطفاء لهيبها؛ وكأن الشعب الفلسطيني لم يكفيه مأساة عقد من لهيب الانقسام الذي أحرق الأخضر واليابس ليتكفل هو أيضا بإنهائه.
والسؤال في هذه المرحلة الحاسمة .. هل بمقدور الشعب أن ينهي الانقسام والسؤال الأهم ما مصير هذه القيادات إن قام الشعب بمهامهم عوض عنهم، وللعلم خيار إنهاء الشعب للانقسام بنفسه هو خيار شمشون للقيادة؛ فإذا خرج الشعب للشارع فلا أحد بمقدوره التنبؤ بما سيحدث لأن عند تلك النقطة تتوقف السياسة وتتجمد ويفتح الباب واسعا لنار الثورة والجنون والفوضى، ولن يكون بمقدور أيا كان تأجيلها أو التصدي للهيبها مهما توهم في نفسه تلك القدرة وتناسى حقائق التاريخ والتي تؤكد حتمية ثورة الشعوب عندما تفقد الأمل في تغيير واقعها المتردي.
والشعب الفلسطيني وفي غزة تحديدا قد وصل إلى مرحلة اليأس من تغيير واقعه؛ وإن حاول البعض نفي ذلك وتجميل واقع غزة والتغني بصمودهم وصبرهم الذي نفذ؛ وأولئك هم من يقدمون له خيار الثورة على طبق من ذهب لعجزهم المزمن على أن يكونوا قادة حقيقيين. وانفجار غزة لن يقتصر على حدودها وسينتقل لهيبه حتما إلى المحيط في منطقة هي بالأساس عاصفة بكل أنواع النيران الكامنة تحت رماد ربيع العرب الذي لم تلبث نيرانه في الانطفاء بعد.
إن استمرار الأوضاع في غزة على ما هي عليه ستقود حتما إلى الانفجار الذي أجلته على ما يبدو وإلى حين مسيرات العودة، ولكن ومع فقدان هذه المسيرات لزخمها بفعل القمع العسكري الدموي الاسرائيلي لسلميتها؛ وبفعل سوء إدارتها الذي اتسم بالتخبط خاصة في الأوقات الحرجة لتلك المسيرة؛ والتي كانت تتطلب استعدادا وخطط ممنهجة للتعامل معها بحيث يبقى زخم هذه المسيرات في تنامي؛ ولكن الارتجال المعتاد فلسطينيا أدى إلى النتيجة العكسية؛ وهو ما أدى إلى تكريس واقع علاقة قطاع غزة مع إسرائيل إلى نفس ما كانت عليه محكومة بمعادلة الردع العسكري؛ وذلك مع إدراك إسرائيل لعمق الأزمة التي تغرق فيها غزة وحكامها الفعليين ومحدودية تأثيرهم لأوراق اللعبة السياسية التي بحوزتهم على تغيير أى شئ في المشهد المأساوي القائم في القطاع.
وليس صحيح قط أن إسرائيل تخشى من انفجار غزة، وقد أعدت إسرائيل العدة جيدا لليوم التالي لانفجار غزة بحيث تكون هي أقل المتضررين وأكثر المستفيدين من الفوضى التي ستعقب هذا الانفجار والفراغ السياسي الناتج عنه، والتي من المؤكد أنها لن تقتصر على قطاع غزة، وقد تنصلت إسرائيل من مسؤوليتها عن مأساة غزة وعن كل تبعات انفجارها سلفا؛ وهي تدعي ليل نهار أنها الأحرص على إنهاء تلك المأساة وتلقي بها على عاتق طرفي الانقسام.
ومن الواضح أيضا أن أقوالها في هذا الصدد وجدت آذانا صاغية دوليا وإقليميا؛ وهي في انتظار الفوضى الخلاقة مجددا لأنها البيئة المثلى لتمرير صفقة القرن وفرضها على الفلسطينيين وهم غارقين في صراعاتهم الداخلية وأزماتهم المزمنة التي من السهولة بما كان أن تحول المشهد إلى حرب أهلية مع أول قتيل فلسطيني على يد أخيه الفلسطيني.
إن كلمة السر لتفادي هذه المأساة القادمة ليست لدى الشعب الفلسطيني؛ ولكنها لدى أصحاب القرار في شطري الوطن وخاصة في قطاع غزة لأنهم سيكونوا هم أول وأكثر الأطراف خسارة مع الكل الفلسطيني والقضية الفلسطينية التي لن يكون مصيرها إلا التصفية، والحكمة في هذه الظروف الصعبة تقتضي منهم إدراكا عميقا لموقع أقدامهم في جغرافيا سياسية جديدة تتشكل في الشرق الأوسط ولا مكان فيها إلا لأقدام الفيلة ولا يحكمها إلا منطق القوة.
فيا أيها القادة ... أليس فيكم رجل حكيم.