نشر بتاريخ: 30/06/2018 ( آخر تحديث: 30/06/2018 الساعة: 14:53 )
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
لن أكتب فقط عن قصة موت السرير رقم 12 للأديب الراحل غسان كنفاني ، ولن أكتب تلخيصا عنها . بل سأكتب عن أوجاعها . وما أشبه اليوم بالعام 1961 من ناحية الفلسفة المثالية لدور المواطن الفلسطيني في تاريخه الشفوي . صحيح أنه لم يكن في ذلك العام فيسبوك ، ولكن التواصل الاجتماعي كان مباشرا وبشكل أوسع وأدق . كانت الانطباعات تتكوّن عن العالم الحقيقي وليس من خلال الايماءات عن العالم الافتراضي . وفي العام 1961 وفي هذا العام 2018 نحن نرى ما تشاهده عيوننا ولا نرى الحقيقة ( قد نريد ولكننا لا نستطيع ) .
بطل القصة هو محمد علي أكبر . وهو عماني من قرية أبخا وكان مصابا بسرطان الدم ومات وعمره 25 عاما . وكان يغضب جدا إذا خاطبه أحد بإسم " محمد علي " ويرفض ذلك ويكرر أن اسمه لا يتجزأ " محمد علي اكبر " . وكان الممرضون والممرضات يتندّرون على الأمر وتعلو ضحكاتهم . وكان يرفض أن يستجيب لنداء " محمد علي " ، ويجيب فقط إذا كان المنادي يذكر اسمه كاملا " محمد علي أكبر " .
قبل أن تخرج روحه في المستشفى ، كان يحدق بي ، وظل يحدّق . ويمسك بصندوق خشبي صغير ملفوف بخيط من القنب . تهامست الممرضات عن مكنونات الصندوق ، فالفقراء أحيانا يملكون كنوزا مخبأة . فهل كان ثريا يدّعي الفقر .
في بلادنا .. يدخل المرضى إلى المشفى يمشون على أرجلهم . وبعد أيام يخرجون في توابيت . هل الخلل في المشافي أم أن المرضى لا يفطنون الى العلاج الى بعد فوات الأوان !!!
صرخ الممرض : مات السرير رقم 12 . ولم يقدر محمد علي أكبر أن يعترض هذه المرة على تغيير إسمه الى رقم . ولم يطلب مناداته باسمه الكامل .
كان محمد علي أكبر أحب فتاة وتقدّم لخطبتها ، وحين ذهبت أخته لطلب يدها وافقت أمها ووافقت الفتاة . ولكن أبوها حين سمع اسم ( محمد علي ) رفض تماما . وقبل أن يموت أوصى بعدم تزويجها لمحمد علي لانه لص يسرق الخراف . ونسيت أخته أن تذكر أن العريس هو ( محمد علي أكبر ) بائع الماء . فتحطمت حياته بسبب تشابه الأسماء .
قصة حزينة ومؤلمة . وماذا يوجد في الصندوق ؟
ما كل هذا الحزن ؟ ما كل هذا الألم ؟
والأهم هل هذه القصة حقيقية ؟ أم أننا نخترع القصص الحزينة والنهايات التراجيدية لنهرب من مفهوم الموت الطبيعي !
يقول غسان كنفاني :
اّه كم نحن محبوسون في اجسادنا وعقولنا . إننا دائما نعطي الاخرين صفاتنا وننظر اليهم من خلال مضيق من اّرائنا وتفكيرنا . نريدهم ان يكونوا ( نحن ) ما وسعنا ذلك . نريد ان نحشرهم في جلودنا . أن نعطيهم عيوننا كي ينظروا بها . وان نلبسهم ماضينا وطريقتنا في مواجهة الحياة ، ونضعهم داخل أطر يرسمها فهمنا الحالي للزمان والمكان .
ملاحظة .. محمد علي لم يحب فتاة سمراء جميلة ، ولم يحدّق بي قبل موته لانه أصيب بالعمى قبل ست ساعات من وفاته ، ووالده لم يرفض زواجها منه . والصندوق كان به فواتير للتجارة . ولم يكن يبيع الماء بل كان يعمل في ميناء الكويت .
نحن نخترع القصص الحزينة .. لأننا لا نريد أن نرى أية قصة ليست من تأليف خيالنا.