نشر بتاريخ: 02/07/2018 ( آخر تحديث: 02/07/2018 الساعة: 18:23 )
الكاتب: د.وليد القططي
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية قال الجنرال الأميركي كورتيز ليماي قائد عملية قصف اليابان لأحد مساعديه... لو لم تكسب الولايات المتحدة الحرب لحوكمنا كمجرمي حرب، هذه العبارة تؤكد أن مقولة أن المنتصر هو من يكتب التاريخ صادقة إلى حدٍ كبير فمن يحسم الصراع لصالحه في حرب أو ثورة أو انقلاب فيصبح هو الغالب على أمره ويسيطر على مقاليد الحكم يضع رؤيته الخاصة لأحداث التاريخ فيضخّم بعضها أو يُصغرّها، ويُجمّل بعضها أو يشوّهها، ويُبرز بعضها أو يتجاهلها، وقد يختلق أحداثاً وهمية ويطمس أحداثاً حقيقية... ولنا أن نتخيّل في هذا الإطار لماذا لم يُحاكم قادة الولايات المتحدة الأمريكية على جريمتهم ضد الإنسانية التي أبادوا فيها مئات آلاف اليابانيين عندما ألقوا القنابل النووية على جزيرتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، ولنا أن نتخيل ماذا كنا سنقرأ في كتب التاريخ عن ثورة 23 يوليو المصرية والثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الصينية وغيرها فيما لو فشلت هذه الثورات؟!.
وفي إطار هذه الرؤية لكتابة التاريخ كنا ندرس في مناهج التاريخ المصرية عن الحكم التركي العثماني للوطن العربي باعتباره غزواً واحتلالاً فكانت تتكرر مصطلحات: الغزو العثماني والاحتلال التركي في عناوين الفصول ومحتوياتها انسجاماً مع الخطاب الأيديولوجي والمرجعية الفكرية والفلسفة السياسية للضباط الأحرار بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر الذين يحملون توّجهاً قومياً اشتراكياً ترى في أي حكام من غير العرب غزاة. ولنا أن نتخيل أن غيرهم هم من كتب هذه المناهج كجماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال، فهل كانوا سيحملون نفس الرؤية ويستخدمون نفس المصطلحات، أم أنهم سيستبدلونها بأخرى تخدم خطابهم الأيديولوجي ومرجعيتهم الفكرية وفلسفتهم السياسية التي تعتبر الحكم التركي العثماني للوطن العربي امتداداً للخلافة الإسلامية التي بدأت بعد وفاة الرسول – عليه الصلاة والسلام- بالخلافة الراشدة والأموية والعباسية وصولاً إلى الخلافة العثمانية. وبالتالي يصبح الغزو العثماني بالمفهوم القومي فتحاً عثمانياً والاحتلال التركي خلافة إسلامية بالمفهوم الآخر.
إذا كنّا قد اختلفنا في النظر للتاريخ المتعلّق بالحكم العثماني للوطن العربي بناءً على تناقض الرؤية وفق اختلاف التموضع الأيديولوجي والفكري والسياسي؛ فإن هذا الخلاف والتناقض ينسحب على الحاضر وبالتحديد في النظر لتركيا المعاصرة التي يحكمها حزب العدالة والتنمية بقيادة السيد رجب طيب ارد وغان، فهناك من العرب من يعتبره شيطاناً مريداً فيتهمه بإثارة الفتنة في بلاد العرب كمصر والعراق، والمساهمة في تدمير وتفكيك سوريا، وتشجيع الانقسام الفلسطيني، ومواصلة التحالف العسكري والاقتصادي مع (إسرائيل)، والقيام بدور وظيفي في إطار حلف الناتو يخدم المشروع الصهيوأمريكي ... وهناك من العرب من يعتبره ملاكاً نقياً فيرى فيه الزعيم القدوة والقائد النموذج والرئيس الإنسان والسلطان القوي وأكبر داعم لفلسطين وشعبها وقضيتها وأكثر من ساند المُحاصرين الصامدين في غزة... وللخروج من هذا التناقض لا بد من العودة إلى النظرة الموضوعية الواقعية التي لا تصل بالنقد إلى حد الطعن والتحقير، ولا تصل بالمدح إلى حد التعظيم والتبجيل، ولنرجع إلى الوسط الذي تكون فيه القوامة لله والشهادة بالقسط وإلاّ يجرمنا شنآن قوم على ألاّ نعدل.
منذ تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا عام 2002 واعتلاء ارد وغان سدة رئاسة الوزارة 2003 ورئاسة الجمهورية عام 2014 تغيّر وجه تركيا إيجابياً نحو التنمية والنهضة في مختلف المجالات لا سيما الاقتصادي منها وأصبحت تركيا في مصاف العشرين دولة الأقوى اقتصادياً في العالم وأحدث تحوّلا ايجابيا كبيرا في الاقتصاد التركي على صعيد الديون والتضخم والبطالة والصادرات والاستثمارات الأجنبية والصناعة والسياحة ومتوسط الدخل القومي والفردي، وبناء الجامعات والمدارس والمستشفيات. وعمل على التخفيف من حدة العلمانية المتطرفة باتجاه فتح مساحة للقيم الإسلامية والهوية الإسلامية والتعليم الديني ورفع حظر الحجاب في مؤسسات الدولة... وبخلاف الحكام العرب اثبت أنه قائد نزيه ومتفانٍ ومخلص لبلده ويحترم شعبه ولا يستغل منصبه السياسي وزعامته في نهب ثروات بلاده وانتهاك حقوق شعبه... فنال تقدير واحترام شعبه فجدد ثقته به في الانتخابات الأخيرة من خلال إعادة انتخابه.
هذه الانجازات تؤكد أن اردوغان جيد لتركيا ولشعبه؛ ولكنها لا تؤكد أنه جيد للآخرين خارج تركيا وهنا من المفيد ذكر مثالين يؤكدان ذلك وهما علاقة تركيا بالكيان الصهيوني ودور تركيا في سوريا. فالبنسبة للمثال الأول-
ورغم الخلاف السياسي والصراع الإعلامي الذي تأجج بعد حادثة سفينة مرمة 2010 وما سبقها وما تلاها من حصار وحروب على غزة لم يتوقف التحالف الاستراتيجي بين الدولتين – تركيا وإسرائيل – الذي تم تجديده عام 2016 ضمن اتفاقية عودة العلاقات والتعويض وقام فيها أردوغان بسحب شرط إنهاء حصار غزة، وقال على هامش هذه الاتفاقية إسرائيل بحاجة لبلدٍ مثل تركيا في المنطقة، وعلينا أيضاً القبول بحقيقة أننا نحن أيضاً في حاجة إلى إسرائيل وربما هذا ما يُفسر أن تركيا لا زالت وجهة السياح الإسرائيليين الأولى، وجهة تصدير السلاح الإسرائيلي الأولى، والمكان الذي لا زال الطيارون والبحارة الإسرائيليون يتدربون فيه. وهذا لا يناقض حقيقة تعاطف وحب وتأييد الشعب التركي المسلم للفلسطينيين ومساندة الحكومة التركية الإنسانية والسياسية لهم.
والمثال الآخر هو دور تركيا أردوغان في سوريا المنسجم مع دور تركيا الوظيفي المُحدد لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كأحد أضلع مثلث معادٍ للعرب يضم في حينه إسرائيل الصهيونية وإيران الشاهنشاهية وتركيا العلمانية، وبعد انسحاب إيران من هذا الدور عقب الثورة الإسلامية الخمينية تعاظم دور تركيا الوظيفي المنسجم مع كونها عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي إطار هذا الدور الوظيفي يأتي دور تركيا في سوريا منذ بداية ما يُسمى بالثورة السورية عام 2011 الذي تجسّد في دعم المعارضة المسلحة بالسلاح والتدريب وفتح الحدود أمامهم لينسلوا من كل حدب وصوب داخل سوريا فيعيثوا فيها قتلاً وتدميراً وفساداً من أجل تدمير الدولة السورية خدمة للأهداف الصهيوأمريكية الرامية لإضعاف المحور المُعادي للكيان الصهيوني والممانع للسياسة الأمريكية.
ختاماً أردوغان جيد لتركيا كنموذج للزعيم المُحب لشعبه والمُخلص لوطنه وكنموذج للرئيس النزيه المتفاني في خدمة بلده، أما الذهاب أبعد من ذلك في تصويره زعيماً فوق العادة وخارقاً للطبيعة ومنقذاً للأمة ومتحدياً لأمريكا و(إسرائيل)... فليس لها رصيد كبير في الواقع الفعلي.