نشر بتاريخ: 06/08/2018 ( آخر تحديث: 06/08/2018 الساعة: 12:49 )
الكاتب: زياد الجيوسي
"البوح السادس"
ومن زقاق إلى زقاق ومن سوق الى سوق كنت اواصل جولتي برفقة منسقة برنامجي في نابلس د. لينا الشخشير والشاعر مفلح أسعد، حتى بلغ منا التعب بعد جولة طويلة فكان لا بد أن نختم جولة اليوم بزيارة خان الوكالة لمشاهدته والتجوال فيه وأخذ قسط من الراحة قبل أن يحل المساء وأقفل راجعا لقريتي الصغيرة جيوس، وهذا الخان والذي يسميه البعض خان الفروخية نسبة للأمير فروخ باشا أمير الحج الشامي والذي شيده في العصر المملوكي عام 1630 ليكون واحة راحة وتجمع للحجاج من جهة، والتجار والقوافل التجارية من جهة أخرى ومركزا تجاريا فحمل اسم خان الوكالة، وهذا التاريخ غير مؤكد بدقة كون الحجر المنقوش عليه تاريخ البناء قد فقد ولم يعرف أين أصبح ومن سرقه، وحسب تقدير المهندس نصير عرفات أن هذا التاريخ يعود لاعادة اعمار الخان على يد آل الفروخ وليس تاريخ البناء.
كنت قد زرت الخان عام 1996 قبل أن يتم بدء العمل في ترميمه، وكانت أول جولة لي في نابلس برفقة شقيقي جهاد، في ثاني زيارة للوطن بعد ان غادرناه قسرا إثر هزيمة 1967، وفي عام 2009 زرته المرة الثانية مع بدء الترميم برفقة الشاب الطيب عياد الشحرور، وهذه الزيارة الثالثة بعد أن تم ترميم الخان وأصبح يستقبل الزوار من جديد، والخان في الأصل تم بناءه على مساحة تقارب 1600م وكان مكون من طابقين، فالأسفل هو الساحة والاسطبل في العهد المملوكي والمحال التجارية والغرف الداخلية، والأعلى كان مركزا للنوم والراحة للتجار وفيما بعد للزوار، ولكنه تعرض لخراب كبير إثر الزلزال الكبير عام 1967 ولكن جرى ترميم أولي له وبقي رغم الدمار الذي لحق به يعمل، فاستقبل وفود ومؤتمرات وشعراء وأدباء وقادة الثورة عام 1936، ولكنه تعرض لدمار كبير في الاجتياح الاسرائيلي عام 2002 حيث تعرض للقصف واضطرت البلدية لاحضار جرافات كبيرة وهدم البوابة الرئيسة وفتح جدار من جدران الخان، بعد قصف الطائرات الإسرائيلية لصبانتي كنعان والنابلسي ومنازل سكنية مجاورة للخان وتوقع وجود مواطنين فيها لا بد من انقاذهم، وبدأت بعدها عمليات ترميم من خلال بلدية نابلس وبالتعاون مع جامعة النجاح الوطنية بالتنسيق مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وبعدها وبالتعاون بين بلدية نابلس والاتحاد الاوربي جرى اعداد الخان ليكون استثمارا سياحيا بعد اعادة ترميمه على شكله القديم والتاريخي رغم كل الدمار الذي لحق به وبجدرانه واساساته وأعمدته الثمانية الأضلاع والتي لم يتبق منها إلا عمودين.
ما أن دخلنا الخان وبدأت جولتي فيه بنسخته الجديدة بعد الترميم بإدارة سليم أفندي، حيث تم استقبالنا من الإدارة الأسرية بكل ترحيب ومودة، حتى كنت قد نسيت التعب والارهاق الذي ألم بي بعد جولتي الثانية الطويلة منذ الصباح، وبعد فنجان القهوة في الساحة التي أصبحت تضم مقهى وصالة للطعام من طابقين، ومجموعة من الغرف باستخدامات عدة، كنت أصعد الدرج الحجري مع الشابة سناء التي كلفتها إدارة الخان بمرافقتي لمشاهدة غرف وصالات الطابق الثاني، ومن الممر أمام الغرف كانت عدستي توثق جماليات اللحظة والمكان، وبعض الزوايا التي ما زالت تحافظ على ذاكرة الخان حسبما بني في الأصل، والساحة والحركة فيها، حتى أصبحت في كل زيارة لاحقة لنابلس لاستكمال التجوال فيها أعرج للخان في نهاية الجولة للراحة واحتساء القهوة أو تناول الغداء، فدخلت الغرف التي أصبحت غرف فندقية تمازج التراث مع الحاضر، وأصبح بالامكان النزول بها من الزوار والوفود الذي يرغبون العيش ليوم أو أكثر في مكان يحمل عبق التاريخ وذاكرة الأجداد، ثم تجولت في صالة المطعم العلوية وتأملت أرضية الفسيفساء الموجودة والجدار التاريخي للخان وارضية البازليكا في أحد الزوايا، وحقيقة لفتت نظري أرضية البازليكا وربما تعود إلى أحد الأديرة البيزنطية التي كانت في نابلس مع بدايات انتشار الديانة المسيحية.
انهيت الجولة في الطابق العلوي حيث يتكون من 24 غرفة اضافة لصالة الطعام، ونزلت لغرفة الإدارة وشكرتهم تعاونهم، حين أمسكت بيدي الطفلة الرائعة مايا مهند السايح وقالت لي: تعال معي سأريك أشياء جميلة وقديمة في الخان، وبدأت معي جولة في الطابق الأرضي، وكان أجمل ما في الجولة القاعة المواجهة للمدخل الرئيس التي ما زالت تحتفظ بتاريخها القديم، والجدار الأصلي الذي خضع للترميم، وزينت القاعة بقطع تراثية من الفخاريات وجواريش طحن الحبوب وأدوات حفر وفاس وسكة محراث خشبية وسرير طفل خشبي تراثي، وملابس تراثية وصور كبيرة تبين تاريخ الخان وكيف كان والمراحل التي مر بها من خراب وترميم، كانت مايا تشرح لي عن كل شيء وتقترح زوايا أصورها ببراءة وذكاء، وتحمل الصور فأصورها وانتهز الفرصة لتصوير مايا معها، ثم خرجنا إلى متجر الأثواب والمطرزات التراثية فتجولت بها معها، وأمسكت خارطة فلسطين مطرزة وقالت: هذه فلسطين.. وطننا.. وأنهينا الجولة وجلست مع صحبي بعد أن دخلت الخان والشمس لم تغب بعد للراحة، ولكني لم ارتاح الا وكانت الشمس قد غابت، فاحتسيت فنجان قهوة آخر في ساحة الخان والتي تستخدم ايضا للمعارض والأمسيات الثقافية والندوات، وحضنت الطفلة مايا وتصورت معها، وغادرنا الخان ومشاعر مختلفة تجول في روحي وفي نفسي حيث أوصلني صحبي د. لينا الشخشير منسقة برنامجي ومرافقتي في جولاتي في نابلس، والشاعر مفلح أسعد اللطيف والمتحدث اللبق للسيارت المتجهة لبلدتي، كي أعود لهم بعد عدة ايام لاستكمال الجولة في قصر الحاج نمر النابلسي في عسكر البلد ومنه سنتجه الى ياصيد البلدة الساحرة لزيارة الحاج عوني ظاهر ورؤية كم كبير من التراث التربوي النادر الذي عمل على جمعه وتوثيقه، والذي سيكون عنه وعن قصر الحاج نمر وزيارة جبل جرزيم حيث يقطن السامريون واللقاء مع الأستاذ اسحق السامري سكرتير الطائفة السامرية.
نسمات عمَّانية حلوة بعد أيام ارتفعت فيها درجات الحرارة، أجلس لمكتبي في شرفتي احتسي القهوة وأستعيد ذاكرة نابلس وجولاتي السابقة واللاحقة فيها، أستمع لشدو فيروز: " شجر أراضيك سواعد أهلي شجروا، وحجار حفافيك وجوه جدودي الي عمروا، وعاشوا فيك من ميت سني، من ألف سني، من أول الدنيي، وطني وحياتك وحياة المحبي، شو بني عم أكبر و تكبر بقلبي، و أيام اللي جايي، جايي فيها الشمس مخبايي، أنت القوي أنت الغني و أنت الدني يا وطني".
فأهمس: صباحكم أجمل.. صباحك أجمل يا وطني، صباح أجمل وحلم حرية آت لا ريب فيه..