السبت: 23/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الحركة الوطنية الفلسطينية: شرعية المنطلقات والتباس الممارسة

نشر بتاريخ: 15/08/2018 ( آخر تحديث: 15/08/2018 الساعة: 11:16 )

الكاتب: د.ابراهيم ابراش

-1-
بعد أكثر من مائة عام من ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية على إثر إعلان وعد بلفور والاحتلال البريطاني لفلسطين، وبعد خمسة عقود من تأسيس المشروع الوطني الفلسطيني المعاصر منتصف الستينيات، وبالرغم من التضحيات الجسام للشعب ومعاناته سواء داخل فلسطين أو خارجها، وبالرغم من الجهود التي بذلتها القيادات الفلسطينية المتعاقبة منذ الحاج أمين الحسيني مرورا بأحمد الشقيري وأبو عمار حتى الرئيس أبو مازن فإن الصراع مع العدو الصهيوني ما زال متواصلا، ودولة فلسطين المستقلة حتى على حدود ما تمنحه الشرعية الدولية ما زالت بعيدة المنال.
إن كانت موازين القوى المختلة لصالح العدو من أهم أسباب إطالة عمر الصراع وعدم تثمير النضال بما يشتهي الفلسطينيون، إلا أنه وبالمقابل فإن الشعب الفلسطيني حقق بصموده ونضاله العسكري والسياسي وغيرها من أشكال المقاومة انجازات مهمة كـ : حماية الهوية والثقافة الوطنية واستمرار حضورهما في الوجدان الشعبي في كل أماكن شتات الشعب، كشف الممارسات والسلوك العدواني الإرهابي لإسرائيل، كسب دعم وتأييد غالبية دول العالم للحق الفلسطيني سواء من خلال اعتراف العالم بحق تقرير المصير للفلسطينيين أو الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا أو الاعترافات الأخيرة بحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة عاصمتها مدينة القدس؟.
لكن، وفي سياق مراجعة استراتيجية موضوعية فإن خللا ذاتيا صاحب المسيرة الوطنية في كل مراحلها، ويمكن ملامسة الأخطاء أو مواطن الخلل من خلال أمور بعضها له علاقة بخصوصية والتباس تَشَكُل الحركة الوطنية بدايات القرن العشرين ثم المشروع الوطني المعاصر، مكونات وأهداف، كما تم التعبير عنه في انطلاقته الأولى منتصف الستينيات وما طرأ عليه من متغيرات متسارعة، وأسباب أخرى ذات علاقة بالإستراتيجية الفلسطينية ما بعد اختيار طريق الحل السلمي للصراع، ذلك أن استراتيجية القيادة الفلسطينية وقدرة الاستجابة أو التحدي لديها كانت وما زالت مرتبطة بتوازن تحالفات خارجية هشة وغير ثابتة، وبوجود مجتمع فلسطيني – تجمعات فلسطينية – منفصلة وغير خاضعة لسيادة فلسطينية حيث منظمة التحرير تمارس سلطة معنوية على شعبها وليس سلطة سيادية.
وحتى لا يطول المقال بما يرهق القارئ فسنتناول في هذا الجزء من المقال إشكالات ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية والتباسات مكوناتها على أن نتناول في المقال القادم أخطاء التعامل مع نهج التسوية السياسية وممارسة السلطة.
إشكالات ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية والتباسات مكوناتها:
بداية نؤكد على أن الحركة الوطنية الفلسطينية سابقة في الوجود على ما اصطلح تسميته (المشروع الوطني الفلسطيني)، فالأولى تعود لعام 1918 عندما أسس الفلسطينيون المسلمون والمسيحيون (الجمعيات الإسلامية والمسيحية) وكانت أولى تمظهرات الوعي الوطني المستقل للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية الوليدة، وقد انهارت الحركة الوطنية ككينونة سياسية بقيادة الحاج أمين الحسيني نتيجة النكبة والشتات، أما المشروع الوطني المعاصر فقد ظهر بعد النكبة وخصوصا مع منظمة التحرير الفلسطينية وهو بمثابة إعادة بناء واستنهاض للحركة الوطنية الفلسطينية ولكن في ظروف وسياقات مغايرة.
إن كان المشروع الوطني يعبر عن الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني إلا أنه كان متأثرا ومعبرا عن طبيعة مرحلة الخمسينيات والستينيات من حيث وجود : حالة وطنية متماسكة وصاعدة ،مد قومي ثوري عربي ، معسكر اشتراكي ومنظومة دول عدم الانحياز مساندة ، وعليه كان المشروع الوطني الأول سواء من حيث الهدف تحرير كل فلسطين أو وسيلة تحقيقه من خلال الكفاح المسلح ثم الكفاح المسلح والعمل السياسي تعبير عن إجماع وطني ومحصلة مشاريع في مشروع واحد : المشروع الوطني والمشروع القومي العربي والمشروع التحرري العالمي ، وكانت مراهنة الفلسطينيين كما تنص أدبياتهم الأولى على الحلفاء في عملية تحرير فلسطين من البحر إلى النهر أكثر من مراهنتهم على قدراتهم الذاتية ، هذا بالإضافة إلى تأجج الحالة الوطنية وتأثرها بالمناخ الثوري التحرري الذي كان يسود العالم وخصوصا الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية .
خلال عقدين ونصف تقريبا وهي الفترة الفاصلة ما بين انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة في الستينيات وبداية المراهنة على التسوية السياسية بداية التسعينيات حدثت انهيارات زعزعت مرتكزات ومكونات المشروع الوطني بصيغته الأولى نذكر منها :-
1- تراجع المشروع القومي العربي بدءا من حرب 1967 ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979 ، إلى حرب الخليج الثانية 2001 ،ولم تعد القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى إلا لفظيا .
2- انهيار المعسكر الاشتراكي الحليف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية ومعه تراجعت منظومة دول عدم الانحياز .
3- انزلاق الثورة الفلسطينية في عدة حروب ومواجهات مع دول عربية كأحداث الأردن 1970 والحرب الأهلية في لبنان 1975- 1982 ،واتهامها بدعم صدام حسين في حرب الخليج الثانية .
كل ذلك أضعف من قدرة الثورة الفلسطينية على مواجهة إسرائيل عسكريا ،وبقي الفلسطينيون وحيدون في الميدان ، الأمر الذي كشف الهوة الواسعة بين أهداف المشروع الوطني كما وردت في ميثاق منظمة التحرير والممكِنات الفلسطينية . حاولت القيادة الفلسطينية التكيف مع هذه الاختلالات مع الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني من خلال نهج الواقعية السياسية ، واقعية الثوار المجروحين ، وإعادة النظر في أهداف النضال الفلسطيني وطرق تحقيقها .
لا نعتقد أن القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة ارتكبت أخطاء استراتيجية كان عدم ارتكابها سيغير من مسار الأحداث لأن ما جرى كان نتيجة متغيرات عربية ودولية وليس نتيجة تقصير فلسطيني ،إلا أنه كان مطلوبا تدفيع الثورة الفلسطينية الثمن حتى يتم تمرير نهج التسوية السياسية .
لا يعني ما سبق أن الثورة الفلسطينية كانت مبرأة من كل الأخطاء بل وجدت أخطاء ولكنها لم تكن هي المحدد للمسار السياسي للأحداث ، ويمكن ذكر بعض أوجه الخلل والتقصير مثل : تغلغل المال السياسي وغياب المحاسبة للفاسدين ،ترهل بنية الفصائل ، تمركز السلطة بيد شخص واحد ، بالإضافة إلى عدم حدوث مراجعات استراتيجية بعد كل أزمة مرت بها الثورة الفلسطينية .
أن لم تنجز هذه المرحلة هدف التحرير وبقيت الفجوة كبيرة بين الأهداف الأولى وما تم تحقيقه إلا أن البراغماتية المبكرة عند قيادة منظمة التحرير والمواجهة الساخنة مع الاحتلال أديا إلى استنهاض الهوية الوطنية وفرضت على العالم التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وليس مجرد قضية انسانية تخص اللاجئين ، والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في قمة الرباط 1974 والاعتراف بها مراقبا في الأمم المتحدة الأمر الذي أسس لاعتراف 138 دولة بفلسطين دولة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 .

يتبع....