السبت: 08/02/2025 بتوقيت القدس الشريف

برنامج دبلوم الثقافة العمالية والإستثمار في رأسمالنا البشري

نشر بتاريخ: 30/08/2018 ( آخر تحديث: 30/08/2018 الساعة: 11:03 )

الكاتب: ناصر دمج

يمكن اعتبار "برنامج دبلوم الثقافة العمالية" الذي أطلقته جامعة الأقصى، بمبادرة تاريخية من الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين في قطاع غزة، ومتابعة مقدرة ومشكورة من الدكتور "سلامة أبو زعيتر" إحدى التدابير الناجعة للاستثمار في الرأسمال البشري، وهو ما نجد القصور فيه لدى غالبية الدول النامية، التي تعاني من إخفاق مزمن في عدم تحويل رأسمالها البشري إلى مشاريع مثمرة على المدى البعيد.
لأن تعميق الإلمام في مجالات المعرفة، وفي مقدمتها المعرفة المهنية وتطبيقاتها الموسوعية، يسهم في تحديد ميول الشباب والشابات تجاه المهن والحرف التي تساعدهم في الحصول على فرص عمل مستجيبة للاحتياجات الفورية لأسواق العمل؛ وهذا يعني مباشرة الاستثمار الصحيح في الرأسمال المتوفر، دون هدر الوقت أو تبديد الفرص، ما ينتج عنه:
1- إعداد عمال مهرة.
2- وظائف مستقرة ومستدامة.
3- امتلاك مفاتيح التنمية والرخاء الاقتصادي وزيادة دخل الفرد.
4- ترسيخ نظم وآليات الاستثمار والاستفادة من الموارد البشرية، وزيادة كفاءة الإنفاق، ومواءمة السياسات الوطنية مع الاستثمارات المحلية والوافدة، اللتان تركزان على النتائج، ومعالجة الثغرات في القياس والتحليل.
أخذين بعين الاعتبار أن هذا الرباعي يمنحنا آلية موثوقة لقياس انتاجية السياسات الوطنية كافة، ضمن الجهد المتواصل لتطويرها (لأنه ما لا يمكن قياسه لا يمكن تحسينه أبداً) وهذه واحدة من المشكلات المروعة والمسببة لفشل برامج ومشاريع التنمية في فلسطين، التي لم تخضع للتقييم الوطني العام على مدار العشرين عاماً الماضية؛ بعد فشل المشروعات المدعومة من الدول المانحة على وجه التحديد؛ ليس في فلسطين بل في مختلف دول الجنوب وفقاً لمعطيات الأونكتاد.
الاستثمار في الموارد البشرية، كبديل لأموال المانحين..
بعد أن فشلت أموال المانحين المقدمة للشعب الفلسطيني، تحت عنوان "دعم وتنمية المجتمع الفلسطيني" في إطلاق مشاريع التنمية القادرة على تشغيل العمالة والخريجين الفلسطينيين، وارتفاع معدلات البطالة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث وصلت في الضفة الغربية وفقاً لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لعام 2017م، إلى (37%) وإلى (49%) في قطاع غزة، ووصول مؤشر الفقر بين الفلسطينيين إلى (48%)، حيث يعيش (18%) من سكان الضفة الغربية تحت خط الفقر، و (30%) تحت الخط نفسه في قطاع غزة !
لأن خطط التنمية ومشروعاتها المتعثرة في مناطق السلطة الفلسطينية، الممولة من البنك الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وغيرهم، لم تتمكن من بناء مشاريع اقتصادية ذات قدرات تشغيلية مستدامة وملائمة للمجتمع الفلسطيني، تساعده في لجم غائلة البطالة والفقر، وتعزيز الإنتاج المحلي وتطويره كمفاعل أساسي من مفاعيل التنمية المستدامة، لأن المانحين لم يكن في واردهم الاهتمام بهذه المحاور بمقدار اهتمامهم بالمعايير الصارمة التي يفرضونها على متلق المساعدات الفلسطيني، سواء كان السلطة الرسمية أو مؤسسات المجتمع المدني، وهي معايير تستهدف وعلى المدى البعيد خلق الظروف والبيئة السياسة والاجتماعية والاقتصادية المناسبة لتحقيق هدف قبول التعايش مع الاحتلال، وإدامته فوق التراب الفلسطيني، أي جعله احتلال مستدام، وهذا بديل موضوعي للتنمية المستدامة.
ومن تجليات شروط المانحين الفظة والمنافية لأهداف التنمية الحقيقية في فلسطين، إنها تمتنع عن دعم المشاريع الفلسطينية في مناطق (B) و (C)، إلا بشروط إسرائيلية مسبقة، وتحول هذا القيد إلى شرط مقدس لا يمكن تجاوزه بالنسبة لهم، وانحصر دعمهم للمشاريع المنفذة داخل حدود الولاية الفلسطينية (مناطق A)، أما الموافقة من قبلهم على تمويل أي مشروع خارج هذه المنطقة فإنه يحتاج إلى دراسة إسرائيلية معمقة، ومن ثم موافقة مكبلة بالشروط والقيود، وهو أمر يتم بعد تأكد إسرائيل من أن هذا المشروع أو ذاك لا يتعارض مع أهدافها وخططها المستقبلية
عودة على بدء، لقد وصلت المشاريع الغربية المقدمة للشعب الفلسطيني درجة التكيف التام مع إملاءات إسرائيل، وتجلى مثل هذا الأمر في المقترح الذي قدمه (توني بلير) منسق اللجنة الرباعية المقيم في القدس منذ عام 2007م، الذي طالب فيه بإنشاء حواجز تفتيش عسكرية خاصة بالسياح والأجانب في الضفة الغربية، تكون أقل قسوة من تلك التي يمر عبرها الفلسطينيون، وهو اقتراح لا ينطوي على محاولات تكيف المانحين مع شروط الاحتلال الأمنية والعسكرية، بل وأضاف إليها مسحة عنصرية سافرة في تمييزها بين البشر، وهو أمر مناقض لمبادئ وأهداف تلك الدول المعلنة بهذا الخصوص، ويمثل قمة الاندماج بين رؤية وأموال المانحين وشروط إسرائيل الأمنية المقدسة، التي كرست تقطيع الضفة الغربية، واعتنقها المانحون كبديل للإطلاق الحر لمشروعات التنمية المستدامة، وحفر أساسات صلبة لها داخل التراب الفلسطيني، للبناء عليها من قبلهم فيما لو كانوا صادقين في دعمهم للشعب الفلسطيني، ونقله من مرحلة الاحتلال إلى مرحلة الدولة.
بعد مرور عشرين عاماً على تأسيس السلطة الفلسطينية، لم يحصل الشعب الفلسطيني على أي نتيجة ملموسة في مضمار التنمية ذات الأثر التراكمي الناتج عن تدفق أموال المانحين فحسب، بل حصل على نتيجة لم تكن واردة في حساباته، وهي احتلال مؤسساته المدنية من قبل جيوش الخبراء والمستشارين الغربيين المرتبطين بمؤسسات استخبارية إسرائيلية، وأخرى تخص بلدانهم، حدث ذلك كنتيجة مباشرة للتدخل الوظيفي اليومي المفرط، من قبل المانحين في هذه المؤسسات خلال العشرين عاماً الأخيرة، والتي تمكن خلالها المانحون من صناعة وصياغة مفاهيم وقيم جديدة داخل هذه المؤسسات، أصبح مجموعها يشكل ظاهرة جديدة داخل المجتمع الفلسطيني له نظرته الخاصة والجديدة للحياة، من أبرز تجلياتها تحول (موظفيها الفلسطينيين) إلى مخبرين وعابثين بمستقبل شعبهم بعلمهم وبدونه، ومقاولين لأفكار المانحين الجديدة المزينة برداء الليبرالية الجديدة، والديمقراطية والحوكمة والشفافية، ومحاربة الفساد والحكم الرشيد، وخلق المناخ الملائم لتنمية القطاع الخاص، وإصلاح القطاع الحكومي، وخلق ظروف الاستقرار كبيئة مناسبة لتوفير المناخ اللازم لنجاح المشاريع، وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا بعد نبذ العنف (المقاومة) وازدرائه، وتحولت المساعدات الدولية إلى آلة ضخمة لنزع الصفة الوطنية عن هذه المؤسسات، وتوظيفها في إطار تهيئة الظروف السياسية والنفسية والاجتماعية للتعايش الدائم مع الاحتلال.
من أجل ذلك وغيره، علينا أن نعلم بأن المبالغ المالية الغربية المقدمة للشعب الفلسطيني من خلال مؤسسات المجتمع المدني فقط، منذ تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994م إلى نهاية عام 2000م تجاوزت (15مليار) دولار أمريكي وفقاً لأرقام (البنك الدولي World Bank)، ومن المرجح أن تكون الأرقام أعلى من ذلك بكثير بسبب تعدد وتنوع قنوات التمويل الخارجية للداخل الفلسطيني، "وعدم إشراف السلطة الفلسطينية، على ما يتدفق من أموال إلى هذه المؤسسات المعروفة وغير المعروفة، يعني ذلك بأن الدول المانحة حولت ما قدره (550 مليون) دولار في السنة، حصة المواطن المفترضة منها تعادل (150) دولار، وهذه الأرقام لا تشمل المساعدات التي تقدمها (الأونروا) للاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
بعد عام 2000م، زادت هذه المساعدات لتصبح مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل (308) دولار للمواطن سنوياً، وبقي الدعم حول هذا المعدل إلى نهاية عام 2002م، ويعتبر هذا المستوى من الدعم الخارجي هو الأعلى على مستوى العالم، إذا ما قورن مثلاً بالمساعدات الخارجية المدفوعة للبوسنيين في تسعينيات القرن الماضي، سنعلم بأنها لم تكن تتجاوز (215) دولار للفرد البوسني". (المصدر- آن لومور، المساعدات الدولية للفلسطينيين بعد أوسلو، عقدة ذنب سياسية ومال مهدور، راوتلادج أندن ونيويورك، 2008م ص 179)
ومن عام 2007م وصولاً إلى نهاية عام 2016م، تخطى الدعم الخارجي حاجز الــ (3 مليارات) دولار سنوياً، بمعدل (750) دولار للمواطن سنوياً، وذلك "وفقاً لتقديرات البنك الدولي أيضاً، الذي اعتبر هذه الأرقام أكبر منحة عرفها التاريخ". (المصدر- بانجمين بارت، حلم رام الله رحلة في قلب السراب الفلسطيني ص 123)
ما تسببت بتحميل الشعب الفلسطيني دين عام مقداره (4.3مليار) دولار وذلك وفقاً لتقرير صندوق النقد الدولي حول الحالة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية الصادر في شهر تشرين الأول 2013م، وجاء فيه: "زاد الدين العام للضفة الغربية وغزة من نحو ( 2.3 مليار) دولار أميركي إلى مبلغ يقدر بنحو (4.3 مليار) دولار في منتصف العام 2013، أو من (26 %) إلى (38 %) من إجمالي الناتج المحلي". واستدرك: "رغم أن الدين العام لا يزال أقل بصورة هامشية من الحد البالغ (40%) من إجمالي الناتج المحلي المنصوص عليه في قانون الدين العام، فإن زيادة المتأخرات تشير إلى أن مستوى الدين الحالي مرتفع للضفة الغربية وغزة".
مما لا شك فيه بأن الوضع كان من الممكن أن يكون مختلفاً بالكلية، فيما لو وظفت تلك الأموال ضمن خطة تنمية وطنية جامعة لبناء مشاريع إنتاجية معززة للنمو، ومساهمة في لجم غائلة البطالة ومعضلة الفقر، ولكانت النتيجة أفضل مما كانت عليه في نهاية عام 2013م، دون ذلك لن يتمكن الشعب الفلسطيني من حل مشاكله الأساسية المعيقة لتقدمه والمتمحورة حول البطالة والفقر، وهو أمر لن يتحقق إلا بنجاح مشاريع التنمية المستدامة التي تحتاج إلى تظافر الكل الوطني كما يحتاج جهد تحرير فلسطين للتظافر ذاته.
ما يزيد من قتامة المشهد التنموي في فلسطين، هو فشل السلطة الفلسطينية، وفقاً لمؤشر مؤسسة (جيني النرويجية) المتخصصة برصد سياسات الحكومات على مستوى العالم، المتعلقة بتوزيع الدخل القومي على الشرائح السكانية المختلفة، وذلك من خلال منظومة مقاييس ومؤشرات اجتماعية واقتصادية خاصة بها، منها مستوى دخل الفرد السنوي، ومعدلات الفقر البطالة، والتأمين الصحي والعمل اللائق والأمن التشغيلي، وتوفير السكن، والمواصلات والاتصالات، والتعليم والعيش الكريم، فتبين لهذه المؤسسة بأن السلطة الفلسطينية، هي ثاني أسوء نظام سياسي بعد دولة كينا، في إدارة وتوزيع عائدات الدخل القومي على شرائح السكان.
تم ذلك بالتزامن مع نشر دائرة الإحصاءات المركزية الإسرائيلية، في تشرين الأول 2017م، لاستخلاصاتها حول نفس مجالات الحياة بالنسبة للمواطن الإسرائيلي خلال العشرة أعوام الأخيرة (2007- 2017م)، فتبين لها بأن المواطن الإسرائيلي العادي جنى ثمار تسارع النمو الاقتصادي الإسرائيلي خلال هذه الفترة، وهو بطبيعة الحال نمو تراكمي مبني على ما سبقه من نمو الأعوام الماضية، وساهم في تحسن الوضع الاجتماعي والاقتصادي لسكان إسرائيل، بعد تمكن السياسات الإسرائيلية من حل مشكلات السكان المتصلة بالبطالة والتأمين الصحي والعمل اللائق والأمن التشغيلي، وتوفير السكن، والمواصلات والاتصالات، والتعليم والعيش الكريم، يعني ذلك بأن الإسرائيليين في العقد الأخير أصبحوا أكثر ثراءً وأكثر أمناً ويتمتعون بصحة أفضل، بينما الفلسطينيون أصبحوا أكثر فقراً ومرضاً وشقاءً، وأقل ثقة بالمستقبل.

استنتاج
ألحقت المساعدات الدولية أضراراً ملموسة وأخرى كامنة في حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله، بفضل مجموعة كبيرة من الخطط والأخطاء المدروسة التي تسببت فيها طرق تصميم، وأساليب تنفيذ برامج المعونات الدولية، ومن أبرز هذه الأضرار:

1- تحول وكالات التنمية، ومكاتب المتعهدين الغربيين الخاصة، التي تدير أموال الأسرة الدولية، والتي تتقاضى أجرها من خلال الموارد الإنسانية، أي من القيمة المالية الأصلية المقيدة على اسم الشعب الفلسطيني، إلى أبرز معيق في وجه التنمية، ويتجلى هذا الأمر في العديد من المسائل منها رواتب الموظفين والمستشارين الدوليين، وهي لا تقل عن (1000) دولار يومياً لكل منهم، أي ما يوازي رواتب ثلاثة موظفين فلسطينيين - صغار - شهرياً، ومصاريف إدارية لا حصر لها، علماً أن تلك الوكالات تقوم بحسم (10%) من قيمة رواتب مستشاريها وموظفيها، وهذا ما يفسر لنا سبب التعرفة المرتفعة لرواتبهم، وهذه الوكالات على اختلاف مسمياتها تفضل استقدام خبراء أجانب على أن توظف خبراء محليين عملاً بقاعدة الـ (USAID) التي تقول: "بأن الأموال الأمريكية يجب أن تستفيد منها الشركات الأمريكية قبل الآخرين".

2- غض البصر الذي تمارسه السلطة الفلسطينية على عمل هذه الوكالات، سهل مهام تخريبها للمجتمع الفلسطيني، وهو قصور قانوني وسيادي غير مسبوق، لأن السلطة الفلسطينية لا تملك حق مراقبتها ومتابعتها، كما تفعل مع منظمات وجمعيات المجتمع المدني الفلسطيني، ووكالة التنمية الأمريكية (USAID) تجسد أمامنا هذه الحقيقة تماماً، ويعود ذلك إلى قرار الرئيس عرفات بإعفاء هذه الوكالة من الحصول على الإذن اللازم للعمل من وزارة الداخلية الفلسطينية أو غيرها من جهات الاختصاص الفلسطينية، عندما باشرت عملها في مناطق السلطة عام 1994م، وذلك لسببين:

الأول، لأنها تعمل في مناطق السلطة منذ بداية تسعينيات القرن العشرين
الثاني، لفته كريمة من عرفات نحوها، لكنها لم تكن أبداً مع من يستحقها.

فمنح هذا الأمر الوكالة الأمريكية للتنمية وبناتها، الحصانة التي تلزمهم في التصدي لأي محاولة فلسطينية لمعرفة ما يقمن به، علماً أن هناك ضرورة ملحة وبمعايير وطنية خالصة لمعرفة عمل هذه الوكالة وغيرها، التي يديرها كما هو معروف ضباط سابقون من السي أي أيه أو الجيش الأمريكي أو وزارة الخارجية الأمريكية، ممن أنهوا خدماتهم في المؤسسات السيادية في بلادهم، وواصلوها في الضفة الغربية، ولعل خلفية مدراء هذه المؤسسة وغيرها تشير إلى ماهية الدور الكامن لوظائفهم.

3- التدخل في شؤون المؤسسات السيادية الفلسطينية، لأنه لا يوجد ما يمنع ذلك فإنه يتواصل بشكل فظ ومضر بالمصلحة الوطنية العليا، تحت مظلة إدارة المشاريع التي تمولها الدول الغربية، ولكثرتها فإن وجودهم داخل العديد من الوزارات أصبح موازياً لوجود الموظفين الأساسين فيها، وخاصة قطاعات القضاء والتربية والتعليم والصحة والأمن العام، يحدث ذلك دون أي قدرة فلسطينية على اعتراضهم، دون أي قدرة على سؤالهم أو محاسبتهم في حال ارتكابهم لأي أخطاء، ما يعطي انطباع بأنهم يعملون في إدارة موازية للإدارة القائمة التي جاؤوا لدعمها، لكنهم في الحقيقة يقومون ببناء نظام بديل لها، سيكون قابلاً للتجسيد في لحظة ما، من أجل ذلك فإن صلاتهم واحتكاكهم بكوادر القطاع الذي يتواجدون داخله تحت عنوان (إصلاحه) فأنها تهدف إلى الاستفادة من خبراتهم لإتمام بناء (نظامهم البديل) فقط لا غير، وهذا أمر من الأمور الكثيرة والغامضة تماماً بالنسبة للشعب الفلسطيني، وحتى بالنسبة للفلسطينيين الذي يعملون معهم، وهو أمر لا ينطوي على خرق فاضح لأسس العلاقة السليمة بين الدول، بل يشكل نوعاً من أنواع الاستلاب والاستباحة الفظة لمؤسسات السلطة، المفترض أن لها سيادة داخل حدود مقراتها، ويضر بفعالية وإنتاجية المساعدات الدولية المقدمة للفلسطينيين.

وللاستدلال على وجود هذه المعضلة من معضلات فشل برامج التنمية، يمكننا التوقف عند نتائج مشروع (Flagship) الممول من وكالة التنمية الأمريكية USAID)) والمخصص لتطوير قطاع الصحة الفلسطينية، الذي أطلق عليه مصمموه اسم (Flagship) أي بارجة القيادة بسبب ميزانيته الكبيرة التي تبلغ 80)مليون( دولار، وهي أكبر ميزانية للأسطول الأمريكي الذي يسير فوق اليابسة في مناطق السلطة الفلسطينية، وتديره وكالة (Chemonics) وهي شركة متخصصة في إنفاذ مشاريع التنمية في أمريكيا الشمالية، ويتألف المشروع من أربعة أقسام، الأول: إعادة صياغة طرق وقواعد العمل داخل الوزارة، الثاني: وضع نظام تدريب متواصل للأطباء، الثالث: إنشاء شبكة إعلام صحية، الرابع: تدريب موظفي المستشفيات وتوفير المعدات اللازمة للعمل. (المصدر - بانجمين بارت، حلم رام الله، رحلة في قلب السراب الفلسطيني، ص 139و 140و 141)

لكن الشركة المنفذة، أسوة بوكالات التنمية، كانت تحسم )10%( من رواتب الموظفين الأمريكيين والعرب العاملين في هذا المشروع، فذهب الجزء الأكبر من ميزانيته (80 مليون( دولار للمعاشات، ومصاريف أدارية أخرى لا حصر لها، وعند اقتراب المشروع من نهايتة حظي بتقييم )30%( في إنجاز العمل المطلوب منه.

يقودنا هذا مباشرة إلى التوقف أمام الجانب الآخر لمشاريع الدعم الخارجي وهو (الجانب الربحي)، لأن مشاريع دعم التنمية الغربية على اختلاف جنسياتها هي مشاريع مربحة لوكالات التنمية المصممة لها، وللشركات المنفذة، مثل: شركة (وكالة التنميةICON ) الألمانية، و (أدم سميثAdam Smith International ) البريطانية، و (شمونيكسChemonics ) الأمريكية، و (CHF International) وغيرهن كثر، مضاف إليهن الاقتصاد الإسرائيلي كرابح أكبر من مجموع المساعدات الدولية المخصصة لدعم التنمية في مناطق السلطة الفلسطينية، من خلال طرق ووسائل عديدة، منها التحويلات المالية الكبيرة التي تمر عبر البنوك الإسرائيلية، والعمولات المصرفية الناتجة عنها، وتخزين البضائع والسلع المرسلة إلى قطاع غزة، بسبب الحصار المفروض عليها، حيث يتم احتجاز المساعدات لأشهر طويلة في مخازن مملوكة لشركات إسرائيلية في موانئ إسرائيلية، مما يدر أرباحاً كبيرة عليها.

بالإضافة إلى جيش الخبراء والمستشارين العاملين في هذه الوكالات والشركات، الذين تصل معاشات بعضهم إلى (1000) يورو أو دولار يومياً، تقتطع منها الوكالات المشغلة (30%)، لصالح أرباحها، علماً أن مشروعاتهم غالباً ما تنتهي بالفشل المروع، أو بلا أي فائدة تذكر، وقبل ذلك يتم تقديم هؤلاء الخبراء كعلماء في مجالات إصلاح قطاع الأمن وإرساء أسس الحوكمة السليمة وإعادة الأعمار، ومعظمهم ممن عملوا في باكستان وأفغانستان والبوسنة والعراق، بسبب ذلك فهم يحملون في حقائبهم مشاريع وقوالب لخطط جاهزة نفذت في تلك البلدان، وحاولوا تنفيذها في فلسطين، فلاقت الفشل الذريع بسبب الفوارق الهائلة بين تلك البلدان وفلسطين، لكن النتيجة وفقاً لـ "بانجمين بارت" كانت في فلسطين مربحة أكثر بالنسبة لهم، بسبب قلة المخاطر التي تهدد أعمالهم ووجودهم وإقامتهم الدائمة في القدس الشرقية ورام الله، يعني ذلك، إنه كان للجهد الغربي ثلاث نتائج مدمرة داخل المجتمع الفلسطيني، هي:

1- إبطاء عملية التنمية وإفشال أسسها، لأن المشاريع التي صممت كانت تتوقف في نفس اليوم الذي يتوقف فيه دعمه الخارجي.

2- تهميش الخبرة الفلسطينية المحلية لصالح خبرات وافدة وبمعاشات ساهمت في تأكل موازنات المشاريع ذاتها، التي كانت تتوقف في النهاية بسبب نقص الأموال.

3- يضاف إلى ذلك إصرار جزء من المانحين على إنجاز مشاريع باهظة الثمن وهي بدون أي جدوى تذكر، إلى ذلك قدم لنا بنجامين بارت مثال صارخ على هذا الأمر، وهو على النحو الآتي:
قامت وكالة التنمية الألمانية (ICON)، التي كانت تشرف على إنفاذ الجزء الأول من برنامج )سيادة( المكرس لإصلاح النظام القضائي في السلطة الفلسطينية، بتكليف القاضي العسكري الألماني )كورنليس بلوك (Cornelis Blok غير الملم بالواقع الفلسطيني بإعداد تقرير عن )أخلاق القضاة الفلسطينيين(، في نهاية عمله أنجز تقرير مكون من سبعة عشر صفحة لم يقرأها أحد، لكن إقامته لمدة شهرين في فندق يقع في مدينة القدس، وصلت إلى )100000 يورو( مضافاً إليها راتبه الخرافي الذي تجاوز) 30ألف( يورو في الشهر، وبدل تذاكر سفره وتنقله داخل مناطق السلطة الفلسطينية.

خلاصة
يستنتج من ذلك، أن شعبنا الفلسطيني من خلال مستواه السياسي، مضاف إليه مؤسسات المجتمع المدني، لم يقوما بما يجب لتأهيل المجتمع ورفع كفاءة شبابه وشاباته، وبدلاً منذ لك وُفرت لهم فرص عمل، (مؤقتة أو دائمة) لكنها حرمتهم من الإمساك بزمام الحرفية الرفيعة للهمن والوظائف؛ ما أزال أية فروق بينهم وبين المتعطلين عن العمل، أو بينهم وبين ممن لم يحظوا بفرصة للتعلم.
بناء عليه، أدعو لتوسيع نطاق اعتماد برامج التثقيف العمالية، وإثراء مساقات التدريب والتأهيل المهني من خلال مؤسسات التعليم العالي والمتوسط، لأنه أصبح لهن شأناً كبيراً في المحاربة الحقيقة لبطالة الخريجين، بعد حصولهم على فرص عمل متوفرة في سوق العمل المحلي والعربي.
ما يفسر لنا التركيز الكوني على الاستثمار في الرأسمال البشري للشعوب، لأن حدود المهارات تتسم بالمرونة والحركية الدائمة، ما يمنح الأسواق العالمية التي نحن جزء منها، ابتكارات واخترعات وتطبيقات لا حدود لها، ما يضاعف من ولادة فرص العمل، التي لا يستقيم الفوز بها إلا مع من تأهل لامتطاء صهوتها.
لهذا علينا مساعدة الشباب والشابات ليصبحوا قادرين على ولوج عالم العمل وهم يتمتعون بالمهارات اللازمة والقدرة الحرفية المُنافسة على الإنتاجية.

(*) باحث ومؤرخ