السبت: 30/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ثلاثة أيام في القدس

نشر بتاريخ: 31/08/2018 ( آخر تحديث: 31/08/2018 الساعة: 12:13 )

الكاتب: أسامه منصور "أبو عرب"

(للمقدسيين خصوصاً وللفلسطينيين عموماً)
كانت الشمس تميل للغروب فيما كانت الحافلة تلتهم الأرض وكأنها بكل من فيها تحرّكت مشاعرها تجاهنا ونحن نتمنى أن نصل أسوار القدس قبل المغيب، والقدس تتجاوز اسوارها بكثير جدّاً وللقدس رائحة يميزها الصادقون لكن للبلدة القديمة منذ أعتاب أسوارها وحتى أعتاب أسوارها رائحة شديدة الجمال لم يغيرها اغتصابها ولا العفنين الذين وطؤوها وسرقوها علانية، ميّزتها وعرفتها، وبعد ترجلنا من الحافلة كنا على بعد عشرات الأمتار من باب العامود، لكنا ألقينا عليه حبنا المشفوع بالصدق وقمنا باستقلال حافلة أخرى إلى جبل الطور حيث أقمنا.
كانت الليلة الأطول تحت سماء القدس، تنفست جمالها كل ذرة فيها، وأقمت حتى الصباح في مقهىً شعبي جميل غنيت فيه "هلا بالخميس"، في تلك المنطقة من جبل الطور لا تتوقف الحياة رغم كونها تزدحم بالنهار، ومرتادوا ذلك المقهى من كافة فئات الأعمار وهم أشخاص مؤدبون حتى أنه لا أحد يدخل ذلك المقهى لا يقول السلام عليكم، وتتداخل الأحاديث وتعلو وتخفت فيشكل هذا لوحة مقدسية عالية الثقافة شديدة اللفت للإنتباه، ورغم انخفاض عدد رواد المقهى مع اقتراب ساعات الصباح إلا أنهم مع ارتفاع نجمة الغسق يبدؤون بالتوافد ليحتسوا ما يشاؤون قبل رفع صوت أذان الفجر، ومع ارتفاع ذٰك الصوت يهرعون للصلاة ويعودون وتتداخل الأحاديث وتعلو وتخفت وتتشكل لوحة مقدسية بأنغام مقدسية.
وتُستأنف القرون، سُويْعات قُرونٌ طويلة هي القدس.
قبيْل ظهيرة الخميس أَبحرت للقدس القديمة في الحافلة (275) والتي تمر من وادي الجوز ومن حسن حظك أنك تستعد نفسيا خلال طريقك لانك في نقطة محددة من واد الجوز وأنت في الحافلة ترى جزءً من قبة الصخرة المشرّفة، ومع التهام الحافلة للأرض صعوداً تقترب أكثر وأكثر من مرادك، الآن إلى يسارك تقف أسوار القدس القديمة وعندما يكون الى يمينك شارعي هارون الرشيد وصلاح الدين فإلى يسارك تماماً باب الساهرة، وعندما تكون بمحاذاة شارع نابلس الذي يليه حي المصرارة الى يمينك سيكون إلى يسارك باب العمود، تقابلك ثلاثة نقاط لمجرمي الاحتلال بعد قطعك للشارع إلى يمينك ويسارك والثالثة بالقرب من باب العمود ولن تستطيع منع نفسك من البصق باتجاهها كمكوّن قذر يستولي على القدس اغتصاباً وعنوةً، لكن قلبك يزداد بالخفقان بعد نزولك الأدراج ودُنوّك المتسارع للباب العظيم حيث ستتلاشى لوهلة من الزمن، هناك شيء خفي ما يجعلك تشعر أنك أصبحت في إطار البلدة القديمة الفلسطينية العمق والأبعاد، وخطواتك المتسارعة المحسوبة تسير بسرعة متوسطة فيما تلمح كل شيء ليمينك ويسارك فأيّ المحال غير موجود هناك، إن كل ما يجول بخاطرك موجود، ملابس أحذية أحهزة خليوية وكهربائية سمانة ومواد تموينية تحف مطاعم وعصائر على اختلاف أنواعها معجنات ووجبات خفيفة ومخابز تتميز بكعكها المقدسي الذي يمكن أن تشتريه مع حبة فلافل أو بيضة أو "صُرّة" ملح وزعتر ذٰلك بالإضافة لمحال "الحماضة حلو" والسمسمية بكافة أشكالها، لكن كلما مررت بمحال التوابل فسوف تأسرك الروائح الجميلة التي ليس لها مثيل في كل العالم الأمر الذي يدفعك للتوقف والإستمتاع بالإستنشاق لوهلة، وفي ظل كل ذٰلك يجب أن تتوخّىٰ الحذر لئلّا "تتدعثر" بالخطأ بإحدى الأمهات العظيمات اللاتي يبعن ضمم الخضروات والفواكه وورق العنب وبعض المنتجات المحلية لأنواع المخللات والمكابيس واللبنة والرب والدبس، وتتسارع خطاك رويدا رويدا في حين تمر بين فترة وأخرى بكوْم قمامة من مجرمي الاحتلال إما يقومون بدورية استفزازية استعراضية أو يقفون على أحد المفترقات مثل "كلاب المسلخ" وآخرهم الواقفون قبل أمتار من باب المجلس (الناظر) لتصبح بعد مرورك من هناك في أعظم جزء من أعظم بقعة في العالم.
للقدس بكل اتجاه وكل ذرة فيها أبعادها المقدسة، وللقدس العتيقة في القدس أثرها العظيم الجميل العميق، ولباحات المسجد الأقصى بكل مكوناته عظمة الحضور، ولدىٰ دورانك لليمين ستترك خلفك مئذنة الغوانمة وباب الغوانمة وستتقدم وتمر بباب الحديد فباب القطانين فالمتوضّئ والمطهرة الغربية ثم باب السلسلة وفي معرض مرورك ذٰلك يُشِعّ إلى يسارك وهج عظيم يجذبك لأن تستمر بالتحديق فيه إنها قبة الصخرة المشرّفة الذهبية المشعة بالأمان والحقيقة، وستلاحظ خلال حركتك أنك مُسَيّر ولست مخيّر، فهناك قوة تأخذك للأماكن وستُيمّم وجهك القبة المشرّفة تصلي بساحتها وتندفع لداخل مسجد قبة الصخرة المشرّفة وتصلي باكثر من مكان وتندفع بعد ذٰلك لأسفل الصخرة المبني حولها وتصلي بغير مكان هناك، ولدى خروجك ومغادرتك القبة تستشعر شيئاً قد غادرك وتسير باتجاه القبلة ولدى وقوفك أعلى الدرجات يكون المسجد القبلي المقام فوق مصلّى الأقصى القديم أمامك مباشرة، وفي معرض توجهك إليه ستلفي نفسك تصلي ركعتين هنا وركعتين هناك حتى لو التهمت الشمس ظهرك، ولدى دخولك المسجد تَعْمَد المحراب لتصلي ثم تتنقل في أنحائه مصليا متأملا لهذا الفن المعماري، ولدى مغادرتك المسجد القبلي وفيما تحدّق أمامك مباشرة بقبة الصخرة المشرّفة فانه الى يمينك يقع المصلّى المرواني وإلى يسارك يقع مسجد المغاربة (المتحف الإسلامي) ومصلّى البراق وكذٰلك جامع النساء في جزء منه مكتبة الأقصى، مُتَعَجّلاً غادرت من باب السلسلة وانتهجت طريقاً إلى يساري يقع حائط البراق الذي يزرعه الإحتلال بخزعبلاتهم ومحاولاتهم الجمّة لتهويده بعد تسوية حارة المغاربة لصالح ساحة مزعومة يمارسون فيها طقوساً قائمة على الكذب والإفتراء ستدوم وتكبر ما داموا يغتصبون هذه الأرض التي لن تقبل أن تكون إلا فلسطينية، وتستكمل مسيرك حتى تصبح بحضرة مسجد عمر ابن الخطاب المتاخم لكنيسة القيامة، وتتربع على الأرض سانداً ظهرك لـ عمر تُقلب أشياء كثيرة وأنت تتأمل كنيسة القيامة، تُبحر للحظات في سيّدنا موسى عليه السلام سيّدنا عيسى عليه السلام سيّدنا محمد صلّىٰ الله عليه وسلم، وحجم الصراعات التي مرّت على مدى التاريخ، وتَخْلص لكوْن القدس فلسطينية تتعدّد فيها الأديان وتُحترم، لكنها فلسطينية منذ كنعان، ونحن كفلسطينيين لا نُفرّط فيها كجزء من أرضنا ورغم وجود متخاذلين بين ظهرانينا فإنهم لن ينموا ليُكَوِّنوا شعباً خاصّاً بهم لا يأبه للقدس فالشعب الفلسطيني العظيم بِرُمّتِه مستعد للإستشهاد في سبيل القدس، فهل هناك شعب آخر مستعد كله للموت في سبيل القدس إلا الفلسطينيين .. لا أظن.
غادرت لقضاء حوائجي في جبل الزيتون وعدت للبلدة القديمة بين العصر والمغرب، كررت جولتي ذهاباً للأقصى الشريف وداخلاً من باب القطانين، وعدت أدراجي من باب المجلس (الناظر) وتوقفت لدقائق بباب مخبز حاولت أن أستجمع مخرجاته الكثيرة وبدأت بالإستفسار ما هذه وما تلك فطلبت هذه وتلك والجميل أنه لديه "كراكيش" مُحلّاة وغير مُحلّاة فأخذت من هذه وتلك حتى أن صاحب المخبز قال "مالك بتتشهون" ودار بيننا حوار لدقائق إنتهى إلى أنني تشرفت بمعرفة نشمي آخر من آل أبو اسنينة، ومع ذهاب الشمس غرباً فغرباً أكثر، اخترت أن أحتسي قهوتي على مدرّجات باب العمود، فجلست وتابعت حركة المارين وتأملت مُطوّلاً العابرين حتى رأيت ثلاثة أطفال أعمارهم تتراوح بين 14 إلى 16 يخرجون من باب العمود وبعد قطعهم للنقطة الإحتلالية لحق بهم خنزير بمقتبل العمر من الإحتلاليين المغتصبين واقتادوهم للحظيرة التي يمكثون بها وبدؤوا بتفتيشهم بطريقة مهينة، لم أسمع الكلمات من مكان جلوسي لكني لاحظت مدىٰ الحقارة والسفالة بالتصرف من قبل رعاع مغتصبين إحتلاليين مجرمين بحق أطفال، والذين تم إطلاق سراحهم فخرجوا شامخين، وقد أطفأت سيجارتي العاشرة وغادرت متعهداً أن أصلي الجمعة في رحاب الأقصى المبارك.
كانت ليلة طويلة أخرى في جبل الطور أو الزيتون وقد تنقلت بغير مكان تلك الليلة ثم وكان مستقري الأخير في الصباح الباكر للجمعة في المقهى الذي أحببته، الشاي بالحليب بالنعناع .. قهوتي السادة .. صاحب الكعك وبيضتين .. ثم الحافلة (275) فباب العمود، وقد استمرت طريقي عبر شارع الواد، أتفقد ما لم أتفقده سابقا فقد كان الوقت باكراً على صلاة الجمعة، ثم توجهت لمطعم جميل حيث تناولت إفطاراً شهيّا قرب نافورة جميلة، ستأخذك قدماك بعد ذلك باتجاه الأقصى، ولدى مرورك بمخبز صديقك منذ أمس أبو اسنينة تنتزع حبة فلافل وكعكة وهو يبتسم رافضا للثمن وتجلس بين باب المجلس وحثالة البشر المجرمون فعلى مدخل كل باب هناك ثلّة حاقدة منهم ترمقك بعين الحقد وأنت لا ترمقهم إما أنك لا تستنظف النظر في وجوههم الاحتلالية القذرة أو خشية من أن يلفقون لك تهمة وما أسهل ذلك، تأكل كعكتك رغم عدم جوعك وتدخّن وفي مواجهتك مكتبة كتب، وتدخن وتدخن وتدخن ثم تدخل لرحاب الأقصى فالتدخين ممنوع هناك، وتذهب لمكان يتوسط المسافة بين المسجد القبلي ومسجد قبة الصخرة وتحاول بث رسالة "لايڤ" لكن هاتفك يخذلك ومع بدء الخطبة تسترسل في جمعة أولىٰ لك في قدسٍ أنت فيها طيلة عمرك بتفكير عميق.
كم حجر يتكون منه هذا الصرح العظيم .. كم شجرة بهذا الصرح .. كم ورقة شجر .. كم حبة رمل كَوّنت ما أنت فيه الآن .. وكم قطرة دم انهمرت هنا وكم شهيد ارتقىٰ وهو يدافع عن القدس بكل مكوناتها .. وهل تسبح هذه الأرواح في كل صلاة بالمحيط أم تستمر كل الوقت في سباحتها ومراقبة أفعالنا وممارساتنا ومدى وفائنا لأرواحهم وفعلهم وتضحيتهم .. عين على القدس هي تلك الأرواح التي جاءت من كل مكان استشهد فيه فلسطيني .. شهداء الوطن من البحر للنهر .. شهداء في لبنان وسوريا والأردن ومصر وكل البقاع العربية .. شهداء بالغربة والشتات .. شهداء في كل العالم .. تنساب دمعتك كطفل خاشع في محراب الله وحيث الشهداء وتستفيق على يد تهزك بحنان "أُقيمت الصلاة".
في مساء الجمعة وهذا هو المساء الأخير بهذه القدس العظيمة، أنت بمعيّة صديقان عَرفا بوجودك بالقدس فكانا معك، إياد القواسمي و عبد الكرد.
تنطلق بسيارة من جبلك وتستفيق فإذا بك بالقرب من باب المغاربة وحائط البراق ثم تمر بجانب جورة العناب وحي الثوري وسلوان فالبقعة وصولاً لبيت صفافا حيث تتناول عشاء بحريّاً فاخراً وتنطلق مرة أخرى باتجاه جبل المكبر المطل على الأقصىٰ الشريف حيث المنظر الساحر الذي تشعر منه برهبة وعظمة الاقصى والبلدة العتيقة والقدس، ثم تنطلق مرة أخرى حيث حي المصرارة وباب العمود وشارع صلاح الدين فواد الجوز الشيخ جرّاح مرورا بالقرب مما يسمّىٰ الجامعة العبرية المقامة على أراضٍ فلسطينية كل هذا الظلم قائم على أرض فلسطينية وهناك إطلالة جميلة من جبل الزيتون على واد الجوز والأقصى الشريف، لتنطلق مرة أخرى بالقرب من مستشفى المطلع وصولا لفندق "الإنتر كونتننتال" في جبل الطور حيث الإطلالة الأقرب والأوضح للأقصى الشريف وجثمانية "ستنا مريم"، وقد رافق ذٰلك كله حديثٌ ذو شجن وأبعاد عميقة حول سياسات الإحتلال وممارساته ومصادراته وبيع بعض المنازل للإحتلال في أكثر من مكان وتحت إغراء المال وكذٰلك الضغط المستمر الذي لا يعد مبررا أبداً للقيام بهذه الخيانة في عصر أضحت فيه الخيانة وجهة نظر.
جولة غير اعتيادية في مدينة ليس عادية، عروس المدائن وسيدتهن على الإطلاق، تستحضر خلال تواجدك فيها الإيمان والعشق والثورة، تربط بين الماضي والحاضر والمسقبل، تحدد معالم هويتك الحقيقية ومدى انتمائك وولائك وتمسكك بالبعد العميق لفلسطينيتك العتيدة، تتيقن تماماً أن كل تضحية كانت وستكون هي في مكان يستحق، وأن استمرارك بنهجك الرافض للظلم والإجرام والإرهاب والنازية الإحتلالية دستور حياة هي الاصدق والاروع والأمثل، وتفخر بأنك مقدسي العمق فلسطيني الأعماق.
قبيل ظهيرة السبت، نحن مستعدون للإنطلاق، الحافلة (275) تسير بسرعة باتجاه منطقة باب العمود، بائع الكعك وبائع "الحامضة حلو" وبائع "السمسمية" يبتسمون لك مما يدفعك لتأخذ قليلا من كل شيء إلا كعك القدس تأخذ منه "مونة" وحبة فلافل، تسافر بعيناك نحو باب العمود، تُلغي كل ما هو موجود بينك وبينه، كأنك وإياه وحيدان في هذا العالم، تحتضنه كأم أو آية وتقبل جبينه وتستبيحه عذراً فيما الحافلة تلتهم الأرض بالطريق لرام الله، تستلقي وحيدا على كرسيك وتظل تستنشق القدس وشوارع القدس وحواري القدس، تمعن في البلدة القديمة .. الجميلة العتيقة بكل مكوناتها المحال الزقاق الابواب البناء الاقصى القباب الباحات الباعة وبائعات الخضار وكعك القدس وحلويات القدس وتظل تردد ما قاله تميم رغم كونك لا تلتقي معه بكل شيء:-
"متى تبصرِ القدس العتيقة مرة
فسوف تراها العين حيث تديرها"
تبقى القدس لعيني قرة .. وسر قوة روحي أثيرها
سلام يا قدس.

(أسامه منصور "أبو عرب" 30/08/2018)