نشر بتاريخ: 11/09/2018 ( آخر تحديث: 11/09/2018 الساعة: 17:29 )
الكاتب: هاني المصري
"إن الأعمال بنتائجها"، والنتائج الماثلة أمامنا بعد ربع قرن على اتفاق أوسلو، لا مجال للخطأ في الحكم عليها بأنها كارثية، إذ بات السلام أبعد مما كان، وبتنا أقرب بكثير إلى إقامة "إسرائيل الكبرى" من تجسيد الدولة الفلسطينية.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستكون الأمور أسوأ إذا لم نوقع على أوسلو؟
لا أعتقد ذلك أبدًا. فليس هناك ما هو أسوأ مما وصلنا إليه بعد 25 عامًا على اتفاق أوسلو.
يقال لتبرير التوقيع على أوسلو إن الفلسطينيين كانوا في وضع صعب، فهم كانوا مع الطرف الخاسر في حرب الخليج وعليهم أن يدفعوا الثمن، لا سيما في ظل انهيار التضامن العربي والمعسكر الاشتراكي، في حين أصبحت أميركا الدولة المسيطرة على العالم.
هل كان ممكنًا الوصول إلى الدولة لو كان الأداء أفضل؟ لا، رغم أن الأداء جعل أوسلو على أرض الواقع أسوأ من نصه بكثير، فهناك فرق بين إعلان المبادئ والاتفاقات التي وقعت بعده، إذ كانت أسوأ.
أوسلو كان فخًا، ولا ينفع محاولة التمرد عليه بعد الوقوع بين أنيابه إلا إذا تم الخروج منه كليًا. فأوسلو كان اتفاقًا انتقاليًا وخطأً تاريخيًا وقعت فيه القيادة الفلسطينية، ولا حل إلا بالخروج منه كليًا.
كان يمكن أن تكون الأمور أقل سوءًا لو أصرّت القيادة على وقف الاستيطان وإزالته، وإطلاق سراح الأسرى، وخصوصًا أن أوسلو وقع والانتفاضة الشعبية لم تكن قد وضعت أوزارها بعد. ولكن جوهر الاتفاق لم يكن من الممكن تفاديه إلا إذا قرر الفلسطينيون الخروج كليًا من هذا المسار أو عدم الدخول فيه أصلًا.
كتب صائب عريقات منذ يومين أن الخطأ الأساسي في أوسلو كان عدم الإصرار على الاعتراف المتبادل (دولة مقابل دولة).
والرد على هذا القول أنه لم يكن ممكنًا حصول الاعتراف المتبادل في ظل المعطيات التي أشرنا إليها، ومضافًا إليها أن إسرائيل لم تكن مستعدة للاعتراف بدولة فلسطينية لعدم وجود ما يجبرها على ذلك، ولن تقوم بذلك إلا مجبرة، لأنها تدرك معنى قيام دولة فلسطينية، فهذا يعني هزيمة للمشروع الصهيوني وبداية العد العكسي له. ولو احتوى أوسلو اعترافًا متبادلًا لكان الاتفاق مختلفًا جدًا، مع أنه كان لا بد، على الأقل، الإصرار على الاعتراف المتبادل، ولو أدى ذلك إلى انهيار "العملية السياسية".
لقد تسرعت القيادة في توقيع أوسلو متوهمةً ومتذرعةً بإمكانية حصاد ثمار الانتفاضة قبل نضوجها، الذي انتهى إلى محاولة لإنقاذ رأسها في ظل الرياح الأميركية العاتية في المنطقة.
إن قطف الثمار قبل أوانها خطأ فلسطيني شائع، خصوصًا منذ أوسلو وحتى الآن، على مذبح الحصول على شيء أفضل من لا شيء، يتنافس مع خطأ آخر هو إهدار ما يمكن تحقيقه على مذبح الحرص على تحقيق الهدف النهائي، وإما الكل أو لا شيء.
رغم أن الدولة حقّ وليست قابلة للتفاوض، وسبق الإعلان عنها في العام 1988، واعترف العالم بها العام 2012، إلا أن تجسيدها لم يكن سابقًا على الأبواب، ولا على مرمى حجر، وهو ليس كذلك الآن حتى يُقال اليوم إن المهمة الرئيسيّة تحويل السلطة إلى دولة. فهذا يحتاج إلى إنهاء التزامات أوسلو، والنضال للتخلص من الاحتلال، وليس كما يتبادر إلى بعض الأوساط القيادية حل المجلس التشريعي وتفويض المجلس المركزي بصلاحياته وصلاحيات المجلس الوطني.
علينا أن نعرف أننا كنا ولا نزال أكثر من السابق في مرحلة صمود وإبقاء القضية حية والشعب على أرض وطنه وتقليل الخسائر، ومن ثم إحباط المخططات المعادية الرامية إلى تصفية القضية حتى نسير نحو الإنجازات الوطنية الكبرى.
في ذكرى أوسلو لا بد من التأكيد على ما يأتي:
لا شيء يمكن أن يبرر الاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود، ضمن أسوأ أنواع الاعتراف، لأنه يسقط الرواية التاريخية الفلسطينية لصالح الرواية الصهيونية، مقابل اعتراف إسرائيل بالمنظمة من دون الاعتراف بأي حق من الحقوق الفلسطينية.
لقد غلّبت القيادة مسألة الاعتراف بها وبدورها على الاعتراف بالحقوق الوطنية. وهذا الخطأ-الخطيئة لا يزال ماثلًا حتى الآن كما نلاحظ في سياسة القيادة وسلوكها، وكذلك عند حركة حماس التي تغلب الاعتراف بها على أي شيء آخر.
لا شيء يمكن أن يبرر إدانة المقاومة في بداية المفاوضات وقبل تحقيق أهدافها من دون التزام إسرائيلي مماثل.
لا شيء يمكن أن يبرر فصل القضية عن الأرض والشعب، ولا فصل القدس عن الضفة، وتقسيمها إلى أجزاء وأقسام، مثل (أ) و(ب) و(ج)، في تجاوز حتى لإعلان المبادئ المشؤوم. كما لا شيء يبرر التبعية الاقتصادية للاقتصاد الإسرائيلي كما جاء في بروتوكول باريس الاقتصادي.
لا شيء يمكن أن يبرر استمرار كل هذه الالتزامات الفلسطينية رغم انتهاء الفترة الانتقالية المحددة منذ حوالي 20 عامًا، وتحول بعضها إلى أسوأ مما كان، إذ إن ما يجري على الأرض حاليًا يتجاوز جريرة التنسيق الأمني الذي كان ضمن عملية سياسية رغم كل ما عليها، ليغدو الأمن الإسرائيلي الآن هو المرجعية والأمن الفلسطيني يعمل في خدمته.
جاء اتفاق أوسلو كانتصار لليمين الإسرائيلي رغم أنه لم يكن يحكم إسرائيل حينها، لأن "اليسار" الإسرائيلي خضع له، وأخذ منه صيغة الحل الانتقالي والحكم الذاتي، رغم أن المطروح من بيغن على السادات كان حكمًا ذاتيًا أفضل من الوارد في أوسلو، وحصل الجلاد فيه على اعتراف من الضحية، ووضع المسؤولية عن الفلسطينيين على عاتق السلطة، ما أعفى إسرائيل من أعباء مالية وسياسية وأخلاقية.
حتى إسحاق رابين الذي اغتاله اليمين المتطرف لتوقيع أوسلو، قال بأن "لا مواعيد مقدسة"، وأن "الاتفاق مثل الجبنة السويسرية مخارجها أكثر من مداخلها". وعندما سئل غداة توقيعه على الاتفاق: ماذا ينوي إعطاء الفلسطينيين في الحل النهائي؟ فأجاب: "50% من الضفة والقطاع". فقالوا له إن هذا لن يرضي الفلسطينيين ولا يقيم لهم دولة، فقال عندها (أي إذا رفضوا): "ليحتفظ كل طرف بما لديه".
وعندما جاء نتنياهو إلى الحكم في العام 1996، ومن بعده إيهود باراك، المعارضان لأوسلو، أكملا الإجهاز على الاتفاق من خلال التوسع الاستيطاني السرطاني، إذ أصبح عدد المستوطنين في الضفة حوالي 850 ألف مستوطن، وعدم تطبيق "النبضة الثالثة" التي كان من المفترض أن تعيد فيها قوات الاحتلال انتشارها من معظم مناطق (ج)، ثم إعادة احتلال الضفة بعد فشل قمة كامب ديفيد العام 2000، وإلغاء الفوارق بين مناطق (أ) و(ب) و(ج).
قتلت إسرائيل "أوسلو"، وتتصرف كأنه غير موجود بالنسبة إلى التزاماتها فيه، مع أنها لم تعلن إلغاءه، لأنها تصر على تطبيق الالتزامات الفلسطينية، فلتتحمل المسؤولية عن الجريمة التي اقترفتها، وعلينا نحن التصرف على أساس أن أوسلو غير موجود وليس الاستمرار في التهديد اللفظي بإلغائه من دون فعل شيء.
قد لا نستطيع إلغاء أوسلو مرة واحدة، ولكن يجب أن نقتنع بضرورة ذلك، وأننا تأخرنا بالقيام به، والمهم أن نبدأ ضمن تصور يتعامل مع الأمر كعملية نعرف متى ستبدأ ومتى ستنتهي، وليس التعامل معها كأنها مفتوحة إلى الأبد.
كما أن هناك تهديدًا بتعليق الاعتراف بإسرائيل من دون تحديد ما معنى ذلك، وما يترتب عليه؟ فلا يوجد اعتراف متبادل حتى يمكن سحب السفير لكي نعتبر ذلك تعليقًا للاعتراف. المطلوب سحب الاعتراف وليس تعليقه.
إضافة إلى ما سبق، هناك ما يمكن فعله:
يمكن تفعيل العضوية الفلسطينية في محكمة العدل الدولية، خصوصًا بما يتعلق بالفتوى القانونية لمحكمة لاهاي، والتعامل الجدي مع العضوية الفلسطينية في محكمة الجنايات، وتبني حملة المقاطعة، والمطالبة بمحاكمة إسرائيل لانتهاكها شروط العضوية بعد إقرارها "قانون القومية"، من خلال ممارسة الأبارتهيد داخلها، والاستعمار الاحتلالي الاستيطاني في الضفة والقطاع، وفعل كل ما تستطيعه لقطع الطريق على إقامة الدولة الفلسطينية التي من دون قيامها لا تكتمل "شرعية" إسرائيل الدولية، لأن قيام إسرائيل استند إلى قرار التقسيم 181 الذي ينص على إقامة دولتين عربية ويهودية. وفي هذه المناسبة: لماذا لا تتم المطالبة بتطبيق هذا القرار؟
يمكن السعي للحصول على حقوق العضو في الجمعية العامة لدولة فلسطين (العضو المراقب) كخطوة على طريق الحصول على العضوية الكاملة.
يمكن رفع قضايا والمطالبة على الأقل باستعادة أملاك اللاجئين الشخصية في أراضي 48 التي تصل إلى أكثر من خمسة ملايين دونم، ردًا على محاولات تصفية قضية اللاجئين، عبر وقف المساعدات لوكالة الغوث والعمل على تصفيتها وتغيير تعريف اللاجئ.
يمكن وقف التنسيق الأمني والبدء بإلغاء جهاز أمني، وتخفيض ملموس على موازنة الأمن، وتحويلها إلى بنود أخرى.
كل ما تقدم يستدعي رؤية شاملة جديدة تنبثق عنها إستراتيجية وطنية وإرادة حقيقية تعطي الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة التي من دونها لا يمكن حمل هذا الحمل الثقيل، بدلًا من الاستمرار في العقوبات على غزة، والتهديد بفرض المزيد منها إذا لم تنه "حماس" سيطرتها على القطاع، لتتمكن السلطة الملتزمة بالتزامات أوسلو والمهيمن عليها من الرئيس ومراكز القوى و"فتح" من السيطرة على القطاع من الباب إلى المحراب، وبدلًا من وهم إمكانية إقامة دولة في غزة مستحيلة التحقيق ويفتح الطريق لأوسلو جديد، من خلال تعبيد الطريق لفصل الضفة عن القطاع. فالمطلوب سلطة جديدة تعددية وتشاركية ومهنية وتكون أداة من أدوات منظمة التحرير الموحدة.
أوسلو فشل ولم يُفشَل، لأنه كان محكومًا عليه بالفشل، كونه لم يعترف، ولو بالحد الأدنى، من حقوق الضحية التي قدمت تنازلات كبرى للجلاد من دون مقابل يذكر.
لا بد من التصرف، على الأقل، على أساس أن أوسلو غير موجود، فقد قتلته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي يجب أن تتحمل المسؤولية عن جريمتها، وذلك على طريق إلغائه رسميًا.