نشر بتاريخ: 15/09/2018 ( آخر تحديث: 15/09/2018 الساعة: 13:06 )
الكاتب: عبد اللطيف مهنا
في مقارباتي العديدة للكارثة الأوسلوية، طرحت قبل سنوات سؤالاً كان عنواناً لمقال لي هو: متى تحل "السلطة" نفسها؟! أجبت في متنه جازماً بأنها لن تفعل، وعددت الأسباب التي رأيت أنها تحول دونها وذلك، وكان على رأسها أنها قد ذهبت بعيداً في نهجها، أوهاويتها الانهزامية التسووية، ولم تعد تملك رجوعاً، ولا هي في وارده. ويزيد منه، أنها، وفوق كونها قد باتت معيلةً لكتائب من مناضلي الأمس المتقاعدين، تردفهم كتائب أخرى من المنتفعين بما تيسره صدقات المانحين المشروطة بمواصلتها ما هي عليه، قد تحولت مع الوقت في قفصها التي هي فيه تحت احتلال مرتعاً لشريحة نمت وتكوَّنت في حضنها وارتبطت مصالحها بمصالح محتليها.
وبعدها بفترة لم تطل، طرحت السؤال ذاته معكوساً، وأيضاً كان عنواناً لمقال، وهو، متى يحل المحتلون السلطة؟! وأجبت على سؤالي في ذاك المقال مستخلصاً، بأنهم لن يفعلوا، وأيضاً عددت الأسباب التي لا تدفعهم لذلك، وكان من أهمها دورها الوظيفي المراد لها ما دامت تنهض بشقيه: إعفاء المحتلين من أعباء وكلف الاحتلال وحملها عنهم، إلى جانب تعاونها الأمني معهم لحفظ أمنهم، عبر ما يدعى "التنسيق الأمني"، ومواظبتها على ملاحقة المقاومين، وتطويق واجهاض الانتفاضات الشعبية والحؤول دون اتساعها.
الآن، مر ربع قرن اوسلوي بتمامه وكماله وفوقه يوم على ما أطلق عليه "اعلان المبادئ حول ترتيب الحكم الذاتي الانتقالي"، او ما عرف باتقاقية اوسلو، وما لحق من نسلها، والتي بموجبها أُنشئت "سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود" تحت الاحتلال. ذلك كان في الثالث عشر من هذا الشهر من العام 1993، والذي وقِّع في العاصمة الأميركية واشنطن، وفي رحاب البيت الأبيض، وبرعاية رئيسها آن ذاك بيل كلنتون وبين يديه. وكان موقِّعاه هما، رئيس وزراء العدو الجنرال اسحق رابين، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. وإثره وعلى مدى ربع القرن هذا احتفظت الولايات المتحدة بصفة "راعي السلام"، والوسيط الذي لا يوصف بالنزيه ولا يضيره أن يوصف بالمنحاز، وظلت أدبيات السلطة التي افرزتها هذه الاتفاقية تدعوها "الشريك الاستراتيجي في مسيرة السلام".
عشية مرور ذكرى ما وقِّع في رحابها وبرعايتها، استقبلت الولايات المتحدة المناسبة على طريقتها الأميركية والترامبية جدا، أي ليس بغير المتوقَّع منها. طرد ترامب المنظمة من واشنطن ومعها غصن زيتونها، فاقفل مكتبها، الذي افتتح هناك في العام 1994 مكافأةً لها على اعترافها بعدوها وتنازلها له عن ثلاثة ارباع فلسطين، والتزامها بسائر ما نصت عليه هذه الاتفاقية، ومنه: "نبذ الإرهاب والعنف"، بمعنى التخلي عن مبدأ الكفاح المسلَّح، وأن "تحذف البنود التي تتعلَّق بها في ميثاقها كالعمل المسلَّح وتدمير دولة إسرائيل"، الأمر الذي نُفِّذ بحذافيره عندما صادق ما يدعى مجلسها الوطني في 14/12/1998 في غزة على العبث بميثاقها محولاً إياها من التحرير إلى التمرير، ولتغدو على ماهي عليه اليوم، مخلوقاً فلكلورياً يُستحضر فحسب لمهمات تتعلَّق بالبصم على التنازلات ومن ثم يعاد فيركن جانباً. وكان هذا أيضاً بين يدي كلنتون.
اقفال ترامب لمكتب المنظمة ليس مقطوعاً عن سلسلة من خطوات تنفيذية متلاحقة، يصفّق لها المحتلون ويصفها وزير استخباراتهم بسياسة "تقشير البصل"، وتهدف لفرض "صفقة القرن"، التي لا يبدو أنه يرى ما يدعوه لكشف غموضها المتعمَّد قبل فرضها وقبوله. أهدى القدس عاصمةً لمحتليها، نقل سفارته إليها، شرعن التهويد، طارد الأنروا، والهدف إلغاء حق العودة، أي بجرة قلم شطب من قاموس الأسلويين ما كان يدعى "قضايا الحل النهائي"، ناهيك عن اعتباره للكيان الغاصب "دولةً قوميةً" ليهود الأرض، وصولاً لتهديد محكمة الجنايات الدولية، قضاةً، ومدعين عامين، ومحققين، بالعقوبات، إذا ما عنَّ ببالها محاكمة مجرمي الاحتلال.
في ذكرى مرور ربع قرن على كارثة أوسلو، لم يبق ترامب للأوهام الأوسلوستانية والعربية قشةً لتتعلق بها. المطلوب هو أن تبصموا على الإستسلام، وبعده تعالوا نفاوضكم إن شئتم على أنه لم يعد هناك فلسطين ولا فلسطينيين...هنا، من المضحك المبكي أن نسمع جماعة الكارثة الأوسلوية، بعد أن لم يبق لديهم ما يتنازلون عنه، يعودون للتلويح بحل السلطة كسالفهم زمن تجاذب أكذوبة "حل الدولتين"...ومتى؟!
في زمن بات فيه حلها من عدمه لم يعد مشكلةً عند الأميركان ولا المحتلين...التهويد أخذ مداه، وقضايا الحل النهائي حلها ترامب على الوجه الذي بيَّناه، والمعروض الآن بانتوستانات، وحتى محميات هنود حمر، لا أكثر، وشاء من شاء وأبى من أبى. وعليه،
إن هذه السلطة فعلتها وحلت نفسها فبدائلها التخادمية الدايتونية متوفرة وجاهزة، وإن هي استعاذت بالشيطان وبقيت فهي تعرف دورها الوظيفي المسموح به إياه.
أخطر ما يقوم به انهزاميونا هو محاولتهم لربع قرن خلى تزييف وعينا، والأسوأ ما وفَّروه من ذريعة لانهزاميي الأمة في محاولاتهم هزيمة وعي أمة بكاملها...رب ضارة نافعة، أعاد ترامب الصراع لأبجدياته التي لربع قرن ويزيد أرادوا تغييبها، أعاده صراع وجود لا حدود، فعلى اجيالنا أن تتلقف راية المواجهة مع عدو أمتنا الأكبر الولايات المتحدة.