الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

"كونغرس" فلسطيني؟

نشر بتاريخ: 20/09/2018 ( آخر تحديث: 20/09/2018 الساعة: 10:59 )

الكاتب: د.حسن أيوب

أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية
مرة أخرى تبرز وسائل الإعلام الفكرة التي تقدم بها رجل الأعمال الفلسطيني عدنان مجلي؛ المرة الأولى كانت على لسانه خلال زيارته لقطاع غزة. في مقابلته مع وكالة "معا" للأنباء بدت أفكار الرجل أكثر تفصيلا، وإن لم تكن أكثر وضوحا وتحديدا من حيث مبررات ومنطق عمل الكونغرس من الناحيتين التنظيمية والوظيفية. يتمحور منطق المقترح حول فكرة تجميع أو توحيد الجهد الفلسطيني قطاعيا وجغرافيا حول العالم في إطار شعبي وديمقراطي لا يمارس السياسة بل يتركها لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما أوضحح صاحب المشروع. بهذا المعنى ستكون وظيفة/وظائف "الكونغرس" غير معرفة بما يكفي، كما أن بنيته التنظيمية يعوزها التحديد واليات العمل رغم أن السيد مجلي قدم تصورات تتمحور حول البعد الاقتصادي وعمليات الضغط والمناصرة للتأثير على صانعي القرار في العالم (رابط المقابلة كاملة هنا: https://www.maannews.net/Content.aspx?id=961436.
فلنحاول أن نضع إطارا مفاهيميا لمدلولات "الكونغرس" والذي تشتق منه بنيته ووظائفه، على الأقل من زاوية تجارب محددة في مثل هذا البناء السياسي-القومي. إن فكرة تشكيل "كونغرس" وطني، أو قومي تتركز على إنشاء كيانية منظمة لها صفة العلوية على الأجسام التنظيمية والسياسية لذات القومية. فالكونغرس هو تجمع تمثيلي واسع يستوعب مكونات الكيانية القومية ببعديها القطاعي والجغرافي، ويمثل حلقة الالتقاء بين كل هذه المكونات باعتبارها أجزاء لوجود أصيل لهوية قومية. تصبح مدلولات الكونغرس ذات أهمية خاصة في حالات الشتات أو التفتيت القومي؛ فهو بمثابة تجسير تنظيمي وبرنامجي، ووظيفي على هذا الشتات له صفة الجسم "التشريعي" المتفوق على الكيانية السياسية سواء كانت حركة أو حزب/أحزاب سياسية، أو كانت الدولة.
إن من أهم الملاحظات في هذا الصدد هو أن صيغة "الكونغرس" كتعبير قومي شامل تتراجع لمصلحة الحزب السياسي والدولة إذا ما اكتملت عملية بناء الأمة والدولة. ففي حالة مثل الهند شكل "الكونغرس" الوطني الهندي حتى أوائل ثمانينات القرن الماضي الصيغة القومية الهندوسية وتحول تدريجيا إلى حزب سياسي. وقد كان هذا الكونغرس هو الكيانية السياسية-القومية التي جمعت بين الهند كحضارة وبين الهند كدولة قومية، ولعب دورا محوريا في نهوضها بما هي دولة-أمة. وفق هذا المعنى فإن منظمة التحرير الفلسطينية كانت هي "الكونغرس" الفلسطيني الذي جسر على زمنين فلسطينيين هما زمن النكبة، وزمن النكسة. إذ وحدت تحت لوائها ووراء ميثاقها وعبر هياكلها التنظيمية كل الفلسطينيين قطاعيا وجغرافيا. لكن هذا الكونغرس الفلسطيني سرعان ما فقد -طوعا وكرها- جزءا من وظائفه ومنطق وجوده (أو أدخل تعديلا جوهريا على هذا المنطق) بعد التحول البرنامجي للمنظمة عام 1974، ثم شهد تحولا اخر لا يقل دراماتيكية بعد العام 1993. هذه التحولات تعتبر تغييرا في دستور هذا الكونغرس بين زمنين لكل منهما محدداته وحساباته.
تشير تجربة "المؤتمر الوطني الإفريقي" في جنوب أفريقيا والذي تشكل في العام 1912 باسم "المؤتمر (الكونغرس) الوطني للشعب الأصلي في جنوب أفريقيا" The South African Native National Congress إلى أن صيغة الكونغرس مثلما أشرنا إيها أعلاه قد استمرت وترسخت حتى عندما انقسم المؤتمر في العام 1930. ولعبت المنظمة الشبايبة في المؤتمر بقيادة كوادر بارزة مثل أوليفر تامبو، وولتر سيسولو، ونيلسون مانديلا دورا محوريا في الحفاظ على حيوية وقدرات المؤتمر وبرنامجه القومي. في كل هذه المحطات وما تلاها واصل "المؤتمر الوطني" الجنوب إفريقي وظيفته في الجسر على محاولات نظام التفرقة العنصرية تفسيخ الوحدة العضوية للسود باعتبارهم الشعب الأصلي. حافظ هذا الكونغرس على طبيعته بخاصة بعد العام 1948 عندما تبنت الدولة رسميا قانون البارتهايد، ودخلت ما يمكن وصفه بالجمهورية الثانية. لقد شكل كونغرس الأفارقة السود جسرا جمع بين زمنين: زمن التفرقة العنصرية، وزمن الدولة الديمقراطية دون تغيير على دستوره أو أدواته التنظيمية الشاملة، قبل أن يصبح حزبا سياسيا بالمعنى الدقيق للكلمة وقد نقل دستوره للدولة الجديدة.
لن يستقيم بأي حال من الأحوال القول بأن "الكونغرس" الفلسطيني المقترح "سيترك السياسة للشرعية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية..." (مقابلة السيد مجلي مع وكلة معا) حيث أن "الكونغرس" كمفهوم، وكما تشير التجارب هو من طبيعة سياسية وقومية بامتياز، ويحتاج إلى فحص وإعادة فحص لصلاحية ووجاهة وجوده ودستوره بالنظر إلى المتغيرات المحيطة به وبخاصة على الصعيد الدولي. ربما من المفيد من زاوية براجماتية بحتة أن نلقي نظرة على تجربة "الكونغرس الصهيوني". فهو الجهة التشريعية العليا للمنظمة الصهيونية العالمية؛ يراقب عملها وبنتخب مؤسساتها من خلال أكثر من 600 بعثة عضوا فيه. وهو الجهة التي تنتخب لجنة تنفيذية تدير شأن المنظمة في "اسرائيل" والشتات (على حد التعبير الصهيوني) على السواء. أي أنه الكيان التشريعي الصهيوني (وإن شئتم اليهودي بالمعنى السياسي/القومي) الناظم للحركة وللدولة وللمنظمات اليهودية-الصهيونية حول العالم. يمكننا بدرجة معقولة من الثقة أن نستنتج من ذلك بأن الصهيونية ودولة "اسرائيل" لا تزال تعتبر نفسها في زمن الحركة رغم قيام الدولة، وربما يعود السبب في ذلك بان الصهيونية لا ترى بأنها حققت أهدافها بعد، الأمر الذي يبرر استمرار كونغرسها. يمكن قراءة "قانون القومية" الأخير في هذا السياق، والان نتحدث ليس من ناحية براغماتية، بل من زاوية جدلية.
بتبنيها لقانون القومية تكون "اسرائيل" قد دخلت مرحلة "الجمهورية الثالثة" (الأولى بعد عام 1948، والثانية عقب حزيران 1967). ولا زالت تحتفظ بذات الخصائص. وجدت "اسرائيل" أخيرا الإجابة عن أسئلة القومية والدين والديمقراطية لصالح تعريف ديني-إثني صريح للقومية يحدد المكانة القانونية للسكان الأصليين باعتبارهم لا يشكلون شعبا أو مجموعة قومية. من بين أهم العوامل التي شجعت قوى اليمين واليمين القومي الديني في "اسرائيل" للقيام بهذا التحول الانعطافي هو ديالكتيك العلاقة الصراعية مع الفلسطينيين كوجود قومي، وغيرها من العوامل ذات العلاقة بالتحولات الجارفة نحو الفاشية والشعبوية في "اسرائيل" وفي الديمقراطيات الغربية عموما. بهذا المعنى ترى الصهيونية في القانون حلا بنيويا ممأسسا "لمشكلة" الشعب الأصلي، وبالمقابل فإن الكونغرس الفلسطيني (أعني منظمة التحرير الفلسطينية) قد عجز عن تقديم إجابات من ذات الطبيعة لهذا التحدي، وهو يواجه مأزقا تاريخيا للخروج من حالة العجز هذه. هل يحتاج الواقع الجديد لكونغرس فلسطيني من الطراز الذي يقترحه السيد مجلي أم إلى إعادة تعريف الكونغرس القائم؟
لا شك بأن هذا الواقع يطرح مسألة مراجعة الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية مراجعة شاملة وفورية لإعادة تعريف المسألة الوطنية الفلسطينية (ليس بالضرورة في إطار، وربما بتجاوز أو التخلي عن مشروع الدولة)، وإعادة صياغة كيانيتها السياسية التنظيمية وأدواتها، لكن هل هذا يعني فصل "الكونغرس" المقترح عن منظمة التحرير الفلسطينية؟ وما هي صيغة العلاقة بين الكيانين؟ وما دامت "اسرائيل" تستهدف الوجود الفلسطيني برمته من خلال قانون القومية، فما صيغة ربط فلسطينيي الداخل بهذا الكونغرس المقترح، وبالكونغرس القائم وهو منظمة التحرير؟ هل يعني التركيز على البعد الاقتصادي فصل السياسة عن الاقتصاد وتحويل الكفاح الوطني إلى حملات مناصرة منفصلة عن القضايا الجوهرية في الصراع؟ وبالأساس هل نحن بحاجة إلى كيانات تنظيمية جديدة أم إلى إعادة الاعتبار للقضية الوطنية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني وتقرير مصير، وبما يحقق الشرط البنيوي لمواجهة الحركة الصهيونية و"اسرائيل" وهي تدخل "جمهوريتها الثالثة"، -والأخيرة على الأرجح- وتعيد الصراع إلى مربعه الأول في دورة كاملة؟ هذه الأسئلة مفتوحة لمن يرغب بالإجابة وفي مقدمتهم السيد عدنان مجلي.

[email protected]